فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله
وهو على هذا اسم مفعول أي متكئا له أو مصدر أي اتكاء، وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازا، وقيل: هو من باب الكناية، وعن أنه الطعام يحز حزا بالسكين واختلفوا في تعيينه، فقيل: كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم، وإنما يأكلونه حزا بالسكاكين، وقيل: كان أترجا وموزا وبطيخا، وقيل: الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج، وكأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه، وقرأ مجاهد الزهري وأبو جعفر وشيبة -متكى مشدد التاء من غير همز بوزن متقى وهو حينئذ إما أن يكون من الاتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت: توضيت، أو يكون مفتعلا من أوكيت السقاء إذا شددته بالوكاء، والمعنى أعتدت لهن ما يشتد عليه بالاتكاء أو بالقطع بالسكين، وقرأ متكأ على وزن مفعلا من تكأ يتكأ إذا اتكأ، وقرأ الأعرج الحسن متكأ بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم، ومنه قوله: وابن هرمزوأنت من الغوائل حين ترمي وعن ذم الرجال بمنتزاح
ينباع من ذفرى عضوب حسرة زيافة مثل الفنيق المكرم
فأهدت (متكة) لبني أبيها تخب بها العثمثمة الوقاح
نشرب الإثم بالصواع جهارا ونرى (المتك) بيننا مستعارا
وقال بعض المحققين: لا يبعد أن تسمى هذه الواو فصيحة، وإنما أعطت كل واحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن، وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهن بالحجة.
وقيل: غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في [ ص: 229 ] أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبن عليه فيكون خائفا من مكرها دائما فلعله يجيبها إلى مرادها، والسكين مذكر عند السجستاني قال: وسألت أبا زيد الأنصاري، وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه، وعن والأصمعي أنه يذكر ويؤنث، وذلك حكي عن الفراء اللحياني ومنع بعضهم أن يقال: سكينة، وأنشد عن ويعقوب، ما يخالف ذلك وهو قوله: الكسائي
الذئب سكينته في شدقه ثم قرابا نصلها في حلقه
والظاهر أنها لم تأمره بالخروج إلا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها، وقيل: أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام، وقد أضمرت مع ذلك ما أضمرت يحكى أنها ألبسته ثيابا بيضا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض فلما رأينه عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه، وإنما حذف على ما قيل: تحقيقا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن، وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل، ونظير هذا آت كما مر آنفا أكبرنه أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وأخرج وغيره عن ابن جرير عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: أبي سعيد الخدري رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر، وحكي أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس، وجاء عن أنه أعطي ثلث الحسن، وفي رواية عن الحسن مرفوعا أنس وتقدم خبر أنه عليه السلام كان يشبه أنه عليه السلام أعطي هو وأمه شطر الحسن، آدم عليه السلام يوم خلقه ربه، وعن رضي الله تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن، ومن ذلك قوله: ابن عباس
يأتي النساء على أطهارهن ولا يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع إذا لحت حاضت في الخدور العواتق
وقيل: إن الهاء للسكت، ورد بأنها لا تحرك ولا تثبت في الوصل، وإجراء الوصل مجرى الوقف وتحريكها تشبيها لها بالضمير كما في قوله:
واحر قلباه ممن قلبه شبم.
على تسليم صحته ضعيف في العربية.واعترض في الكشف التخريجين الأولين فقال: إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف [ ص: 230 ] والصفات والصلات، وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف، وأما في مثل هذا فلا، والمصدر ليس من مجازه إذ ليس المقام للتأكيد، وزعم أن الوجه هو الأخير، وكل ما ذكره في حيز المنع كما لا يخفى.
وأنكر مجيء أكبرن بمعنى حضن، وقال: لا نعرف ذلك في اللغة، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر، ونقل مثل ذلك عن أبو عبيدة الطبري. . وغير واحد من المحققين، ورواية ذلك عن وابن عطية إنما أخرجها ابن عباس ابن جرير ، وابن المنذر من طريق وابن أبي حاتم عبد الصمد، وهو -وإن روي ذلك عن أبيه علي عن أبيه لا يعول عليه فقد قالوا: إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم. ابن عباس-
وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين، ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجا وقبولا، وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشأن وقطعن أيديهن أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بمألم ما نالهن، وهذا كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض.
في الكشف إنه معنى مجازي على الأصح، والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن.
وأخرج وغيره عن ابن المنذر أنه فسر التقطيع بالإبانة، والمعنى الأول أسرع تبادرا إلى الذهن، وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه، ومن العجيب ما روي عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام، وأظن أن منشأ هذا محض استبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر، ولعمري لو عرض ما قاله على أدنى الأفهام لاستبعدته مجاهد وقلن تنزيها لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبا من قدرته جل وعلا على مثل ذلك الصنع البديع حاش لله أصله حاشا الله بالألف كما قرأ في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا، وهو على ما قيل: حرف وضع للاستثناء والتنزيه معا ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه، وكثيرا ما يراعون ذلك، ألا تراهم قالوا: جلست من عن يمينه؟ فجعلوا –عن- اسما ولم يعربوه، وقالوا: غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاه كل ذلك مراعاة للأصل، واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف، ورد في البحر دعوى إفادته والتنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة، ولا فرق بين قام القوم إلا زيدا، وحاشا زيدا، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسما إلا إذا نقل وسمي به وجعل علما، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب، ولذا جعله أبو عمرو اسم فعل بمعنى برئ الله تعالى من السوء، ولعل دخول اللام كدخولها في ابن الحاجب هيهات هيهات لما توعدون ، وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل: إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن ، نعم ذهب الزجاج المبرد وأبو علي وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب، وأصله من حاشية الشيء وحشيه أي جانبه وناحيته، وفيه ضمير وابن عطية يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به لله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤي فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال [ ص: 231 ] (حاشا لله) بالتنوين، وهو في ذلك على حد: سقيا لك، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه وكذا بقراءة أبي وعبد الله رضي الله تعالى عنهما -حاشا الله- بالإضافة كسبحان الله، وزعم الفارسي أن (حاشا) في ذلك حرف جر مرادا به الاستثناء كما في قوله:
(حاشا) أبي ثوبان إن أبا ثوبان ليس ببكمة فدم
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ولا –أحاشي- من الأقوام من أحد
حاشا قريشا فإن الله فضلهم.
وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم: أما والله وأم والله، نعم رد عليهم أيضا بأنها تقع قبل حرف الجر، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه من أنها لا تكون حرفا أصلا بل هي فعل دائما ولا فاعل لها، والجر الوارد بعدها كما في. حاشاي إني مسلم معذور. والبيت المار آنفا بلام مقدرة، والحق أنها تكون فعلا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام، أو المصدر المفهوم من الفعل، ولذا لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث، وحروفا أخرى ويجر ما بعدها، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند الفراء ابن هشام، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض، ولا تدخل عليها إلا كما إذا كانت فعلا خلافا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا جرت، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفا للتنزيه، وتمام الكلام في محله ما هذا بشرا نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني، وقصرهن على الملكية بقولهن: إن هذا أي ما هذا إلا ملك كريم أي شريف كثير المحاسن بناء على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد، وأنشدوا لبعض العرب:فلست لإنسي ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم قوادها
أبناؤها متكنفون أباهم حنقوا الصدور وما هم أولادها
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب فأجاب ما قتل المحب حرام
وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أيضا إلا أنه روي عنه أنه مع ذلك كسر اللام من ملك، وروى الكسر أبي عمرو عن ابن عطية الحسن، وأبي الحويرث أيضا، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا (ملك) بكسر اللام فقال: لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشترى لئيم، وعلى التقديرين لا يقال: إن هذه القراءة مخالفة لمقتضى المقام، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه.