[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم .
وما أبرئ نفسي أي أنزهها عن السوء قال ذلك عليه السلام : هضما لنفسه البرية عن كل سوء وتواضعا لله تعالى وتحاشيا عن التزكية والإعجاب بحالها على أسلوب قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : آدم ولا فخر أو تحديثا بنعمة الله تعالى وإبرازا لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي أنزهها من حيث هي هي ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله سبحانه بل إنما ذلك بتوفيقه جل شأنه ورحمته وقيل : إنه أشار بذلك إلى أن عدم التعرض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف الله تعالى أنا سيد ولد إن النفس البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها لأمارة لكثيرة الأمر بالسوء أي بجنسه والمراد أنها كثيرة الميل إلى الشهوات مستعملة في تحصيلها القوى والآلات وفي كثير من التفاسير أنه عليه السلام حين قال : ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل عليه السلام : ولا حين هممت فقال : وما أبرئ نفسي .. إلخ وقد أخرجه في تاريخه الحاكم بلفظ قريب من هذا عن وابن مردويه مرفوعا وروى ذلك عن أنس ابن عباس وحكيم بن جابر وغيرهم وهو إن صح يحمل الهم فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد وقيل : لا مانع من أن يحمل على الثاني ويقال : إنه صغيرة وهي تجوز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة ويلتزم أنه عليه السلام لم يكن إذ ذاك نبيا والحسن جعل ذلك وما أشبهه من تلفيق المبطلة وبهتهم على الله تعالى ورسوله وارتضاه وهو الحري بذلك والزمخشري ابن المنير وعرض بالمعتزلة بقوله : وذلك شأن المبطلة من كل طائفة إلا ما رحم ربي قال : الجمهور على أن الاستثناء منقطع و ( ما ) مصدرية أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف عنها السوء على حد ما جوز في قوله سبحانه : ابن عطية ولا هم ينقذون إلا رحمة منا وجوز أن يكون استثناء من أعم الأوقات و ( ما ) مصدرية ظرفية زمانية أي هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت رحمة ربي وعصمته والنصب على الظرفية لا على الاستثناء كما توهم لكن فيه التفريغ في الإثبات والجمهور على أنه لا يجوز إلا بعد النفي أو شبهه نعم أجازه بعضهم في الإثبات إن استقام المعنى كقرأت إلا يوم الجمعة وأورد على هذا بأنه يلزم عليه كون نفس يوسف وغيره من الأنبياء عليهم السلام مائلة إلى الشهوات في أكثر الأوقات إلا أن يحمل ذلك على ما قبل النبوة بناء على جواز ما ذكر قبلها أو يراد جنس النفس لا كل واحدة .
وتعقب بأن الأخير غير ظاهر لأن الاستثناء معيار العموم ولا يرد ما ذكر رأسا لأن المراد هضم النوع البشري اعترافا بالعجز لولا العصمة على أن وقت الرحمة قد يعم العمر كله لبعضهم . اهـ . ولعل الأولى الاقتصار على ما في حيز العلاوة فتأمل وأن يكون استثناء من النفس أو من الضمير المستتر في أمارة الراجع إليها [ ص: 3 ] أي كل نفس أمارة بالسوء إلا التي رحمها الله تعالى وعصمها عن ذلك كنفسي أو من مفعول أمارة المحذوف أي أمارة صاحبها إلا ما رحمه الله تعالى وفيه وقوع ( ما ) على من يعقل وهو خلاف الظاهر ولينظر الفرق في ذلك بينه وبين انقطاع الاستثناء إن ربي غفور رحيم . (53) . عظيم المغفرة فيغفر ما يعتري النفوس بمقتضى طباعها ومبالغ في الرحمة فيعصمها من الجريان على موجب ذلك والإظهار في مقام الإضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادئ المغفرة والرحمة ولعل تقديم ما يفيد الأولى على ما يفيد الثانية لأن التخلية مقدمة على التحلية وذهب واستظهره الجبائي إلى أن أبو حيان ذلك ليعلم إلى هنا من كلام امرأة العزيز والمعنى ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت ما قلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس أمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله تعالى بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له وتعقب ذلك صاحب الكشف بأنه ليس موجبه إلا ما توهم من الاتصال الصوري وليس بذاك ومن أين لها أن تقول : وما أبرئ نفسي بعد ما وضح ولا كشية الأبلق أنها أمها يرجع إليها طمها ورمها .
ومن الناس من انتصر له بأن أمر التعليل ظاهر عليه وهو على تقدير جعله من كلامه عليه السلام غير ظاهر لأن علم العزيز بأنه لم يكن منه ما قرف به إنما يستدعي التفتيش مطلقا لا خصوص تقديمه على الخروج حين طلبه الملك والظاهر على ذلك التقدير جعله له وأجيب بأن المراد ليظهر علمه على أتم وجه وهو يستدعي الخصوص ويساعد على إرادة ظهور العلم أن أصل العلم كان حاصلا للعزيز قبل حين شهد شاهد من أهلها وفيه نظر ويمكن أن يقال : إن في التثبت وتقديم التفتيش على الخروج من مراعاة حقوق العزيز ما فيه حيث لم يخرج من جنسه قبل ظهور بطلان ما جعله سببا له مع أن الملك دعاه إليه ويترتب على ذلك علمه بأنه لم يخنه في شيء من الأشياء أصلا عن خيانته في أهله لظهور أنه عليه السلام إذا لم يقدم على ما عسى أن يتوهم أنه نقض لما أبرمه مع قوة الداعي وتوفر الدواعي فهو بعدم الإقدام على غيره أجدر وأحرى فالعلة للتثبت مع ما تلاه من القصة هي قصد حصول العلم بأنه عليه السلام لم يكن منه ما يخون به كائنا ما كان مع ما عطف عليه وذلك العلم إنما يترتب على ما ذكر على التفتيش ولو بعد الخروج كما لا يخفى أو يقال : إن المراد ليجري على موجب العلم بما ذكر بناء على التزام أنه كان قبل ذلك عالما به لكنه لم يجر على موجب علمه وإلا لما حبسه عليه السلام فيتلافى تقصيره بالإعراض عن تقبيح أمره أو بالثناء عليه ليحظى عند الملك ويعظمه الناس فتينع من دعوته أشجارها وتجري في أودية القلوب أنهارها ولا شك أن هذا مما يترتب على تقديم التفتيش كما فعل وليس ذلك مما لا يليق بشأنه عليه السلام بل الأنبياء عليهم السلام كثيرا ما يفعلون مثل ذلك في مبادي أمرهم وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعطي الكافر إذا كان سيد قومه ما يعطيه ترويجا لأمره وإذا حمل قوله عليه السلام لصاحبه الناجي اذكرني عند ربك على مثل هذا كما فعل تناسب طرفا الكلام أشد تناسب وكذا لو حمل ذاك على ما اقتضاه ظاهر الكلام وتضافرت عليه الأخبار . أبو حيان
وقيل هنا : إن ذلك لئلا يقبح العزيز أمره عند الملك تمحلا لإمضاء ما قضاه ويكون ذلك من قبيل السعي في تحقيق المقتضى لخلاصه وهذا من قبيل التشمير لرفع المانع لكنه مما لا يليق بجلالة شأنه عليه السلام .
[ ص: 4 ] ولعل الدعاء بالمغفرة في الخبر السالف على هذا إشارة إلى ما ذكر ويقال : إنه عليه السلام إنما لم يعاتب عليه كما عوتب على الأول لكونه دونه مع أنه قد بلغ السيل الزبى ولا يخفى أن عوده عليه السلام لما يستدعي أدنى عتاب بالنسبة إلى منصبه بعد أن جرى ما جرى في غاية البعد ومن هنا قيل : الأولى أن يجعل ما تقدم كما تقدم ويحمل هذا على أنه عليه السلام أراد به تمهيد أمر الدعوة إلى الله تعالى جبرا لما فعل قبل واتباعا لخلاف الأولى بالنظر إلى مقامه بالأولى وقيل : في وجه التعليل غير ذلك وأخرج عن ابن جرير أن هذا من تقديم القرآن وتأخيره وذهب إلى أنه متصل بقوله : ابن جريج فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن .. إلخ ويرد على ظاهره ما لا يخفى فتأمل جميع ما ذكرناه لتكون على بصيرة من أمرك وفي رواية البزي عن ابن كثير وقالون عن أنهما قرآ ( بالسو ) على قلب الهمزة واوا
نافع