واعترض القول بعدم ترتب الغرض على التدبير بأن الغرض ليس إلا دفع إصابة العين لهم وقد تحقق بدخولهم متفرقين وهو وارد أيضا على ما ذكر في الوجه الأخير كما لا يخفى وأجيب بأن المراد بدفع العين أن لا يمسهم سوء ما وإنما خصت إصابة العين لظهورها وقيل : إن ما أصابهم من العين أيضا فلم يترتب الغرض على التدبير بل تخلف ما أراده عليه السلام عن تدبيره وتعقب بأنه تكلف واستظهر أن المراد أنه عليه السلام خشي عليهم شر العين فأصابهم شر آخر لم يخطر بباله فلم يفد دفع ما خافه شيئا وحينئذ يدعى أن دخولهم من حيث أمرهم أبوهم كان مفيدا لهم من حيث أنه دفع العين عنهم إلا أنه لما أصابهم ما أصابهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك مع أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم لم يعد ذلك فائدة فكأن دخولهم لم يفدهم شيئا واعترض أيضا ما ذكر في توجيه الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل بأن المشهور أن الغرض منه إفادة الاستمرار كما مرت الإشارة إليه غير مرة وظاهر ذلك لا يدل عليه قيل : وإذا كان الغرض هنا ذاك احتمل الكلام وجهين نفي استمرار الإغناء واستمرار نفيه وفيه [ ص: 21 ] تأمل فتأمل جدا هذا وما أشرنا إليه من زيادة ( من ) في المنصوب هو أحد وجهين ذكرهما في الآية ثانيهما جواز كونها زائدة في المرفوع وحينئذ ليس في الكلام ضمير الدخول كما لا يخفى قيل : ولو اعتبر على هذا الوجه كون مرفوع كان ضمير الشأن لم يبعد أي ما كان الشأن يغني عنهم من الله تعالى شيء الرازي إلا حاجة استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيرا في تغيير التقدير والمراد بالحاجة شفقته عليه السلام وحرازته من أن يعانوا .
وذكر أن الحاجة إلى الشيء الفقر إليه مع محبته وجمعه حاج وحاجات وحوائج وحاج يحوج احتاج ثم ذكر الآية وأنكر بعضهم مجيء الحوائج جميعا لها وهو محجوج بوروده في الفصيح وفي التصريح باسمه عليه السلام إشعار بالتعطف والشفقة والترحم لأنه عليه السلام قد اشتهر بالحزن والرقة وجوز أن يكون ضمير الراغب قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه السلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئا لكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته والاستثناء منقطع أيضا وجملة قضاها صفة حاجة وجوز أن يكون خبر إلا لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم وخبر فإذا أولت بها فقد يقدر خبرها وقد يصرح به كما نقله القطب وغيره عن وفيه أن عمل إلا بمعنى لكن عملها مما لم يقل به أحد من أهل العربية وجوز ابن الحاجب الطيبي كون الاستثناء متصلا على أنه من باب :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
.فالمعنى ما أغنى عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئا إلا شفقته التي في نفسه ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدر الله تعالى كالهباء فإذن ما أغنى عنهم شيئا أصلا وإنه لذو علم جليل لما علمناه أي لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا فكانت الحال كما قال فاللام للتعليل و ( ما ) مصدرية والضمير المنصوب ليعقوب عليه السلام وجوز كون ( ما ) موصولا اسميا والضمير لها واللام صلة علم والمراد به الحفظ أي إنه لذو حفظ ومراقبة للذي علمناه إياه وقيل : المعنى إنه لذو علم لفوائد الذي علمناه وحسن إثارة وهو إشارة إلى كونه عليه السلام عاملا بما علمه وما أشير إليه أولا هو الأولى ويؤيد التعليل قراءة ( مما علمناه ) وفي تأكيد الجملة بإن واللام وتنكير الأعمش علم وتعليله بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى ولكن أكثر الناس لا يعلمون . (68) . سر القدر ويزعمون أنه يغني عنه الحذر وقيل : المراد لا يعلمون إيجاب الحذر مع أنه لا يغني شيئا من القدر وتعقب بأنه يأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادي .
وقيل : المراد لا يعلمون أن يعقوب عليه السلام بهذه المثابة من العلم ويراد بأكثر الناس حينئذ المشركون فإنهم لا يعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة وفيه أنه بمعزل عما نحن فيه .
[ ص: 22 ] وجعل المفعول سر القدر هو الذي ذهب إليه غير واحد من المحققين وقد سعى في بيان المراد منه وتحقيق إلغاء الحذر بعض أفاضل المتأخرين المتشبثين بأذيال الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فقال : إن لنا قضاء وقدرا وسر قدر وسر سره وبيانه أن الممكنات الموجودة وإن كانت حادثة باعتبار وجودها العيني لكنها قديمة باعتبار وجودها العلمي وتسمى بهذا الاعتبار مهيئات الأشياء والحروف العالية والأعيان الثابتة ثم إن تلك الأعيان الثابتة صور نسبية وظلال شؤونات ذاتية لحضرة الواجب تعالى فكما أن الواجب تعالى والشؤون الذاتية له سبحانه مقدسة عن قبول التغير أزلا وأبدا كذلك الأعيان الثابتة التي هي ظلالها وصورها يمتنع عليها أن تتغير عن الأحكام التي هي عليها في حد نفسها فالقضاء هو الحكم الكلي على أعين الموجودات بأحوال جارية وأحكام طارئة عليها من الأزل إلى الأبد والقدر تفصيل هذا الحكم الكلي بتخصيص إيجاد الأعيان وإظهارها بأوقات وأزمان يقتضي استعدادها الوقوع فيها وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين وسبب مخصوص وسر القدر هو أن يمتنع أن يظهر عين من الأعيان إلا على حسب ما يقتضيه استعداده وسر سر القدر هو أن تلك الاستعدادات أزلية غير مجعولة بجعل الجاعل لكون تلك الأعيان ظلال شؤونات ذاتية مقدسة عن الجعل والانفعال ولا شك أن الحكم الكلي على الموجودات تابع لعلمه تعالى بأعيانها الثابتة وعلمه سبحانه بتلك الأعيان تابع لنفس تلك الأعيان إذ لا أثر للعلم الأزلي في المعلوم بإثبات أمر له لا يكون ثابتا أو بنفي أمر عنه يكون ثابتا بل علمه تعالى بأمر ما إنما يكون على وجه يكون هو في حد ذاته على ذلك الوجه وأما الأعيان فقد عرفت أنها ظلال لأمور أزلية مقدسة عن شوائب التغير فكانت أزلا فالله تعالى علم بها كما كانت وقضى وحكم كما علم وقدر وأوجد كما قضى وحكم فالقدر تابع للقضاء التابع للعلم التابع للمعلوم التابع لما هو ظل له فإليه سبحانه يرجع الأمر كله فيمتنع أن يظهر خلاف ما علم فلذا يلغو الحذر لكن أمر به رعاية للأسباب فإن تعطيلها مما يفوت انتظام أمر هذه النشأة ولذا ورد أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام ترك تعاطي أسباب تحصيل الغذاء وقال : لا أسعى في طلب شيء بعد أن كان الله تعالى هو المتكفل برزقي ولا آكل ولا أشرب ما لم يكن سبحانه هو الذي يطعمني ويسقيني فبقي أياما على ذلك حتى كادت تغيظ نفسه مما كابده فأوحى إليه سبحانه يا فلان لو بقيت كذلك إلى يوم القيامة ولم تتعاط سببا ما رزقتك أتريد أن تعطل أسبابي .
وقال بعض المحققين : إن سبب إيجاب الحذر أن كثيرا من الأمور قضى معلقا ونيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه فيمكن أن يكون الحفظ عن المكروه من جملة ما نيط بفعل اختياري وهو الحذر وهو لا يأبى ما قلناه كما لا يخفى هذا .
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القدر مرتبة بين الذات والمظاهر ومن علم الله تعالى علمه ومن جهله سبحانه جهله والله تعالى شأنه لا يعلم فالقدر أيضا لا يعلم وإنما طوى علمه حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه فإن الكلام فيما علم كذلك فإن العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما ومن المعلومات العلم بالعلم وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا هو سبحانه [ ص: 23 ] فلو علم القدر علمت ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج إليه سبحانه في شيء وكان له الغنى على الإطلاق وسر القدر عين تحكمه في الخلائق وأنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم .
وقد ورد النهي عن طلب علم القدر وفي بعض الآثار أن عزيرا عليه السلام كان كثير السؤال عنه إلى أن قال الحق سبحانه له : يا عزير لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ويقرب من ذلك السؤال عن علل الأشياء في مكنوناتها فإن أفعال الحق لا ينبغي أن تعلل فإن ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود والأزل لا يقبل السؤال عن العلل والسؤال عن ذلك لا يصدر إلا عن جاهل بالله تعالى فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك