قال مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله : إذ أنتم جاهلون . (89) . أي هل علمتم قبح ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى : ما غرك بربك الكريم والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيا بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الأخوتين أيضا والتلطف في إسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف قيل : ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم عما حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمخض لطلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلبا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال .
روي عن أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه ارفض دمعه باكيا ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أذاهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم كما سمعت ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ما قيل تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر وقيل : إنهم أدوا إليه كتابا من أبيهم وصورته كما في الكشاف من ابن إسحاق يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما وأما [ ص: 48 ] أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الأولاد إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا : قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق وإنك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام .
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي روق نحوه فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا وما أشرنا إليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين وقيل : المراد جاهلون بما يؤول إليه الأمر وعن ابن عباس والحسن جاهلون صبيان قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لا يطابق الوجود وينافي ( ونحن عصبة ) فالظاهر عدم صحة الإسناد وزعم في التحرير أن قول الجمهور : إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال : هل تدري من عصيت وقيل : هل بمعنى قد كما في هل أتى على الإنسان حين من الدهر والمقصود هو التوبيخ أيضا وكلا القولين لا يعول عليه والصحيح ما تقدم ومن الغريب الذي لا يصح البتة ما حكاه أنه عليه السلام حين قالوا له ما قالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال : الثعلبي هل علمتم .. إلخ