قالوا أإنك لأنت يوسف استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيقي ولعلهم قالوه استغرابا وتعجبا وقرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن ( إنك ) بغير همزة استفهام قال في البحر : والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون وهو الظاهر فإن قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد و ( أنت ) في القراءتين مبتدأ و ( يوسف ) خبره والجملة في موضع الرفع خبر ( إن ) ولا يجوز أن يكون أنت تأكيدا للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام وقرأ أإنك أو أنت يوسف وخرج ذلك أبي في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أإنك لغير ابن جني يوسف أو أنت يوسف وكذا إلا أنه قدره أإنك الزمخشري يوسف أو أنت يوسف ثم قال : وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق قال في الكشف : وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجرى على قانون الاستفهام ولعل الأنسب أن يقدر أإنك أنت أو أنت يوسف تجهيلا لنفسه أن يكون مخاطبة يوسف أي أإنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزا وفيه قلة الإضمار أيضا مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين .
فإن قيل : ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن الاستفهام غير جار على الحقيقة على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضا مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق واختلفوا في [ ص: 49 ] تعيين سبب معرفتهم إياه عليه السلام فقيل : عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل وقيل : كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضيء ما حواليه من نور تبسمه وقيل : إنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب وإسحاق وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك وينضم إلى كل ذلك علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه قال أنا يوسف والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليه قوله : وهذا أخي أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه قال بعض المدققين : إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكدا ولهذا لم يقل عليه السلام : بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم وهذا أخي بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله : قد من الله علينا وجوز الطيبي أن يكون ذلك جاريا على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي وليس من ذلك في شيء كما لا يخفى وفي إرشاد العقل السليم أن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيما لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قد من .. إلخ فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتليناه والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم . انتهى . وفيه ما فيه وجملة قد من .. إلخ عند مستأنفة وقيل : حال من أبي البقاء يوسف و أخي وتعقب بأن فيه بعدا لعدم العامل في الحال حينئذ ولا يصح أن يكون هذا لأنه إشارة إلى واحد و علينا راجع إليهما جميعا إنه أي الشأن من يتق أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه ويصبر على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي لا تستلذها النفس فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . (90) . أي أجرهم وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان والجملة في موضع العلة للمن واختار عدم التخصيص في التقوى والصبر وقال أبو حيان المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن مجاهد من يتق الزنا ويصبر على العزوبة وقيل : من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس وقال والنخعي : المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال : من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهي عنه ويصبر في [ ص: 50 ] المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل : من يتق ويثبت على التقوى . انتهى . الزمخشري
والوجه الأول ميل لما ذكره وتعقب ذلك أبو حيان الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض بإخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز وجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر وقرأ قنبل ( من يتقي ) بإثبات الياء فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع وقيل : جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكموا ذلك لغة وقيل : هو مرفوع و ( من ) موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن ( من ) شرطية و يتقي مجزوم وقيل : إن ( يصبر ) مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في ( يأمركم ) و ( يشعركم ) ونحوهما أو للوقف وأجري الوصل مجرى الوقف والأحسن من هذه الأقوال كما في البحر أن يكون يتقي مجزوما على لغة وإن كانت قليلة وقول أبي علي : إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجيء في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظما ونثرا