ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره معطوف على مجموع قوله تعالى : ولكل وجهة إلخ أو على قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك إلخ عطف القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى : ومن حيث خرجت الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله تعالى : ولكل وجهة ؛ لأنه معلل بقوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة وهو وإن كان علة لـ ( ولوا ) لا لمحذوف؛ أي: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة في ذلك كما قيل به : إلا أنه يفهم منه كونه علة لـ ( ول ) لأن انقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان حصوله بها للرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - بطريق الأولى، ولو جعل الخطاب عاما للرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - والأمة، ولم يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما، وإنما كرر هذا الحكم لتعدد علله، والحصر المستفاد من ( إلا لنعلم ) إلخ إضافي [ ص: 17 ] أو ادعائي، فإنه - تعالى - ذكر للتحويل ثلاث علل، تعظيم الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - بابتغاء مرضاته أولا، وجرى العادة الإلهية على أن يؤتى كل أهل ملة وجهة ( ثانيا) ودفع حجج المخالفين، ( ثالثا ) فإن التولية إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة، وهذا النبي يصلي إلى الصخرة، فلا يكون النبي الموعود، وبأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - يدعى أنه صاحب شريعة، ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع؛ لأن عادته - سبحانه وتعالى - جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة، وتدفع احتجاج المشركين بأنه - عليه الصلاة والسلام - يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته وترك - سبحانه - التعميم بعد التخصيص في المرتبة، الثالثة: اكتفاء بالعموم المستفاد من العلة، وزاد ( من حيث خرجت ) دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة؛ حيث زيد في الحضر ركعتان، أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم.
وقد يقال: فائدة هذا التكرار الاعتناء بشأن الحكم؛ لأنه من مظان الطعن، وكثرة المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء، وقيل : لا تكرار فإن الأحوال ثلاثة؛ كونه في المسجد. وكونه في البلد خارج المسجد. وكونه خارج البلد، فالأول محمول على الأول، والثاني على الثاني، والثالث على الثالث، ولا يخفى أنه مجرد تشه لا يقوم عليه دليل.
إلا الذين ظلموا منهم إخراج من الناس، وهو بدل على المختار، والمعنى عند القائلين : بأن الاستثناء من النفي إثبات؛ لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا بالعناد، فإن لهم عليكم حجة، فإن اليهود منهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده، والمشركين منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم، وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها باعتبار أنهم يسوقونها مساقها، واعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وإلا لم يصح الاستثناء؛ لأن الحجة مختصة بالحقيقة، ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان أو باطلا، وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة، بل ذواتهم عن الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة باعتبار مفهوم المخالفة، فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها، وأنت تعلم أن مراد المعترض إن الاستثناء، وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفي عن المستثنى منه للمستثنى، بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات، فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثنى لزم الجمع، وإلا لم يتحقق الاستثناء بمقتضاه؛ إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثنى شيء آخر، ولا محيص للتفصي عن ذلك، إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة، فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه؛ لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولك أن تحمل الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى : لا حجة بيننا وبينكم فأمر الاستثناء حينئذ واضح، إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند إرادة هذا المعنى، وقيل : الاستثناء منقطع، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم، والظلم لا يمكن أن يكون حجة، فحجتهم غير ممكنة أصلا، فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله : ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يلام بنسيان الأحبة والوطن وقرأ رضي الله تعالى عنهما ( ألا ) بالفتح والتخفيف، وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء، و الذين مبتدأ خبره قوله تعالى : زيد بن علي فلا تخشوهم والفاء زائدة فيه للتأكيد، وقيل: لتضمن المبتدأ [ ص: 18 ] معنى الشرط، وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير، والمشهور أن ( الخشية ) مرادفة للخوف؛ أي: فلا تخافوا الظالمين؛ لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد.
واخشوني أي: وخافوني، فلا تخالفوا أمري، فإني القادر على كل شيء، واستدل بعض أهل السنة بالآية على الإمامية، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تحقيق ذلك في محله. حرمة التقية التي يقول بها
ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون 150 الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى : لئلا يكون كأنه قيل : فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس حجة ولأتم إلخ، فهو علة لمذكور؛ أي: أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلإثابتكم الثواب الأوفى، ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده؛ لأنه - كلا فصل - إذ هو من متعلق العلة الأولى، نعم اعترض ببعد المناسبة، وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه، فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف؛ أي: وأمرتكم بالتولية والخشية لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم، والجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة، أو عطف على علة مقدرة مثل واخشوني لأحفظكم ولأتم إلخ. ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه في الأدب المفرد، البخاري من حديث والترمذي " معاذ بن جبل: " ، ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤول الكلام إلى معنى ( فاعبدوا ) وصلوا متجهين شطر تمام النعمة دخول الجنة المسجد الحرام لأدخلكم الجنة. والحديث لا يأبى هذا، بل يطابقه حذو القذة بالقذة، فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق، فإن قيل: إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته - صلى الله تعالى عليه وسلم - اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية : ولأتم نعمتي عليكم أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر.