إن في خلق السماوات والأرض : أخرج عن البيهقي أبي الضحى – معضلا- : أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا، وقالوا : إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزلت. ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان، وإنما جمع ( السماوات ) وأفرد ( الأرض ) للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية، فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها، وهي ما نشاهده منها. وقال : لم تجمع ( الأرض ) ؛ لأن جمعها ثقيل، وهو مخالف للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع مفرده كالألباب، وفي المثل السائر نحوه. وقال بعض المحققين: جمع ( السموات )؛ لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية، كما يدل عليه قوله تعالى : أبو حيان فسواهن سبع سماوات سواء كانت متماسة، كما هو رأي الحكيم أو لا، كما جاء [ ص: 31 ] في الآثار: أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى : وأوحى في كل سماء أمرها يدل عليه، ولم يجمع ( الأرض )؛ لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك، فإنها سواء كانت متفاصلة بذواتها، كما ورد في الأحاديث من أن: أو لا تكون متفاصلة - كما هو رأي "بين كل أرضين كما بين كل سماءين" الحكيم - غير مختلفة في الحقيقة اتفاقا.
واختلاف الليل والنهار أي: تعاقبهما وكون كل منهما خلفا للآخر، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا، أو ظلمة ونورا، وقدم الليل لسبقه في الخلق أو لشرفه.
والفلك التي تجري في البحر عطف على ( خلق السموات ) لا على السموات أو عطف على ( الليل والنهار ) ، والفلك من الألفاظ التي استعملت مفردا وجمعا، وقدر بينهما تغاير اعتباري، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة ( قفل ) فمفرد، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة ( أسد ) فجمع، ومن الأول قوله تعالى : في الفلك المشحون ومن الثاني قوله تعالى : إذا كنتم في الفلك وجرين بهم وقيل : إنه جمع ( فلك ) بفتح الفاء وسكون اللام، وقيل : إنه اسم جمع، وزعم بعضهم أنه قرئ ( فلك ) بضمتين، وهو عند بعض مفرد لا غير. وقال الكواشي : الفلك والفلك ( بضمتين ) لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده.
بما ينفع الناس ( ما ) إما مصدرية؛ أي: بنفعهم، أو موصولة؛ أي: بالذي ينفعهم، وعلى الأول ضمير الفاعل إما للفلك؛ لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى، كما قيل: ( أو ) للجري، ( أو ) للبحر، واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال. وما أنزل الله من السماء من ماء عطف على الفلك قيل : وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل، وقيل : المقصود من الأول الاستدلال بـ ( البحر ) وأحواله لا بـ الفلك الجاري فيه؛ لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء، أو العلم بكيفية إجرائه، أو بتسخير الريح والبحر لذلك، أو توسله إلى ما ينفع الناس وشيء منها ليس من حاله في نفسه، ولأن الاستدلال بالفلك الجاري في البحر استدلال بحال من أحوال البحر بخلاف ما لو استدل بـ البحر وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام، إلا أنه خص الفلك بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال: والعجائب التي في البحر؛ لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه، فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله، وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر المطر والسحاب؛ لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وإلا فالمناسب بعد ذكر اختلاف الليل والنهار الذي هو من الآيات العلوية ذكر ( المطر والسحاب ) اللذين هما من كائنات الجو ، وعدم نظم الفلك في البين لكونها من الآيات السفلية. وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا - وإن جل قائله - ؛ إذ يؤول المعنى إلى: ( والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس ) وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه، ولا دليل يعول عليه، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة، متعلقة بحبال الهواء على لطفه، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم، ووجه الترتيب على ما أرى أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي وسفلي، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي، ( ثانيا ): إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما [ ص: 32 ] ازديادا وانتقاصا، أو ظلمة ونورا، إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه، الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا بما ينفع الناس في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم، وهو الفلك التي تجري على كبد البحر بذلك، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية في هاتيك المسالك، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله مناسبة لذكر البحر بل ولذكر الفلك التي تجري فيه بما ينفع الناس وهو إنزال الماء من السماء، ونشر ما كان دفينا في الأرض بالأحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. و من الأولى ابتدائية والثانية بيانية، وجوز أن تكون تبعيضية، وأن تكون بدلا من الأولى، والمراد من السماء جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك. فأحيا به الأرض بتهييج قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار بعد موتها وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها، وبث فيها من كل دابة عطف إما على ( أنزل ) والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته - تعالى - وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل، و أحيا من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الأحياء، فلا يكون الفصل به مانعا للعطف، إما على أحيا فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال الماء للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب، والبث فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لإغناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل : يحتاج إلى تقدير به- أي بالماء- ليشعر بارتباطه بـ أنزل استقلالا كـ أحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك؛ إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحيث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي، و من بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد من كل دابة كل نوع من الدواب، ومعنى ( بثها ) تكثيرها بالتوالد والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض، وقيل : تبعيضية؛ لأن الله - تعالى - لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت دواب في السماء أيضا في سورة الزمخشري حم عسق ، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش.
وتصريف الرياح أي: تقليب الله - تعالى - لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقيما ولواقح، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة ( الريح ) على الإفراد، وأريد به الجنس، وعن والكسائي: - رضي الله تعالى عنهما- : " ( الرياح ) للرحمة، و (الريح) للعذاب". وروي ابن عباس ولعله قصد بالأول والثاني قوله تعالى: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان إذا هبت ريح قال: "اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا" ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وقوله تعالى: وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم [ ص: 33 ] وعقب إحياء الأرض بالمطر، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح؛ لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض، ولو أمسك الله - تعالى - الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار.
والسحاب : عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة، سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له. المسخر بين السماء والأرض صفة ( للسحاب ) باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كـ سحابا ثقالا ، و (بين) ظرف لغو متعلق بالمسخر، ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول، مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا، وقيل: الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر، ومتعلقه محذوف؛ أي: المسخر للرياح، حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله - تعالى - ، وتعقي تصريف الرياح بالسحاب؛ لأنه كالمعلول للرياح، كما يشير إليه قوله تعالى: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا ، ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدئ به منها؛ لأنه أرضي سماوي، فينتظم بدء الكلام وختمه، وبما ذكرنا علم جهة الترتيب في الآية، وقال بعض الفضلاء: لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء، مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية، ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى: لآيات اسم (إن) دخلته ( اللام ) لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الآلهية به - سبحانه - لقوم يعقلون 164 أي: يتفكرون، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته، أخرج ابن أبي الدنيا عن وابن مردويه - رضي الله تعالى عنها - عائشة أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لما قرأ هذه الآية قال : "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - آية تصدقه، وتسجيل عليهم بسخافة العقول، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده - تعالى - ووحدانيته، وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به - تعالى - ، واستغنى عن سائرها، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة وأحكام مخصوصة، من غير أن تقتضي ذاته وجوده، فضلا عن وجوده على النمط الكذائي، فإذا لا بد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح، يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة، وتقتضيه مشيئته، متعال عن مقابلة غيره؛ إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق - تعالى - عليه، فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر، فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد، وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر، لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح، فيلزم عجزهما، والعجز مناف للألوهية بديهة، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة.