ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى: ما آمنت قبلهم من قرية وما تأتيهم من آية قيل: لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضا، وقد لحق فعله علامة التأنيث، وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في البحر الإلحاق في (كفى) إذا كان الفاعل مؤنثا مجرورا بالباء الزائدة، ومن هنا قيل: إن فاعل (كفى) ضمير يعود على الاكتفاء أي: كفى هو أي الاكتفاء بنفسك، وقيل: هو اسم فعل بمعنى اكتف، والفاعل ضمير المخاطب، والباء على القولين ليست بزائدة، ومرضي الجمهور ما قدمناه، والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس.
ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى إن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له، وهذا نحو ما قيل في: مر بهند، وقيل غير ذلك، ( واليوم ) ظرف ل (كفى) و حسيبا تمييز كقوله تعالى: وحسن أولئك رفيقا وقولهم: لله تعالى دره فارسا، وقيل: حال، وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل، وعدي بعلى لأنه بمعنى الحاسب، والعاد وهو يتعدى ب (على) كما تقول: عدد عليه قبائحه، وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها إلا أنه قليل أو بمعنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدي ب (على) كما يعدى الشهيد، وقيل: هو بمعنى الكافي من غير تجوز لكنه عدي تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في: أسد علي، وهو تكلف بارد، وتذكيره وهو فعيل بمعنى فاعل، وصف للنفس المؤنثة معنى؛ لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجري ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلا حسيبا أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال: ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل بمعنى فاعل، والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل: كفى بك حسيبا عليك.
وجعل بعضهم في ذلك تجريدا فقيل: إنه غلط فاحش، وتعقب بأن فيه بحثا؛ فإن الشاهد يغاير المشهود عليه، فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريدا لكنه لا يتعلق به غرض هنا.
وعن أن المراد بالنفس الجوارح؛ فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر، وعن مقاتل أنه كان إذا قرأ الآية قال: يا ابن الحسن آدم، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك، والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر، وما أخرجه عن ابن أبي حاتم من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول: رب، إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: السدي اقرأ كتابك كفى بنفسك الآية. لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى، ويقرأ في ذلك اليوم كما روي عن من لم يكن قارئا في الدنيا. قتادة
وجاء أن المؤمن يقرأ أولا سيئاته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها، فإذا استوفى قراءة السيئات وظن أنه قد هلك رأى في آخرها: هذه سيئاتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه، ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نورا وينقلب إلى أهله مسرورا ويقول: هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه.
وأما الكافر فيقرأ أولا حسناته وسيئاته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك، فإذا استوفى قراءة [ ص: 34 ] الحسنات وجد في آخرها: هذه حسناتك قد رددناها عليك وذلك قوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا فيسود وجهه ويعظم كربه ثم يقرأ سيئاته فيزداد بلاء على بلاء وينقلب بمزيد خيبة وشقاء ويقول: يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه جعلنا الله تعالى ممن يقرأ فيرقى لا ممن يقرأ فيشقى بمنه وكرمه.
هذا وفسر بعضهم الكتاب بالنفس المنتقشة بآثار الأعمال ونشره وقراءته بظهور ذلك له ولغيره، وبيانه أن ما يصدر عن الإنسان خيرا أو شرا يحصل منه في الروح أثر مخصوص وهو خفي ما دامت متعلقة بالبدن مشتغلة بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقتها قامت قيامته لانكشاف الغطاء باتصالها بالعالم العلوي فيظهر في لوح النفس نقش أثر كل ما عمله في عمره وهو معنى الكتابة والقراءة، ولا يخفى أن هذا منزع صوفي حكمي بعيد من الظهور قريب من البطون، وفيه حمل القيامة على القيامة الصغرى وهو خلاف الظاهر أيضا، والروايات ناطقة بما يفهم من ظاهر الآية نعم ليس فيها نفي انتقاش النفس بآثار الأعمال وظهور ذلك يوم القيامة فلا مانع من القول بالأمرين، ومن هنا قال الإمام: إن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها، واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل، ونعم ما قال غير أن كون ذلك الاحتمال ظاهر غير ظاهر، وقال الخفاجي: ليس في هذا ما يخالف النقل، وقد حمل عليه ما روي عن من أنه يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا ولا وجه لعده مؤيدا له، وأنت تعلم أن حمل كلام قتادة على ذلك تأويل أيضا ولعل قتادة وأمثاله من سلف الأمة لا يخطر لهم أمثال هذه التأويلات ببال، والكلام العربي كالجمل الأنوف، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. وفي كيفية النظم ثلاثة أوجه ذكرها قتادة الإمام.
الأول: أنه تعالى لما قال: وكل شيء فصلناه تفصيلا تضمن أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد قد صار مذكورا، وإذا كان كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه، الثاني: أنه تعالى لما بين أنه سبحانه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما فكأنه كان منعما عليهم بوجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته تعالى وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة يكون مسؤولا عن أقواله وأعماله، الثالث: كما قال: أنه تعالى بين أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل كان إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي، وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته هل أتى بتلك الطاعة أو تمرد وعصى اه، وقد يقال: وجه الربط أن فيما تقدم شرح حال كتاب الله تعالى المتضمن بيان النافع والضار من الأعمال وفي هذا شرح حال كتاب العبد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من تلك الأعمال إلا أحصاها وحسنه وقبحه تابع للأخذ بما في الكتاب الأول وعدمه، فمن أخذ به فقد هدي، ومن أعرض عنه فقد غوى،