ففسقوا فيها أي: خرجوا عن الطاعة وتمردوا، واختار أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك، أو بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك، أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق بجامع الحمل عليه والتسبب له، ويتمم أمر الاستعارة في الصورتين بما لا يخفى، وقيل: الأمر استعارة للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء، وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه؛ لأن قولهم: أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود، ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا نقض بنحو قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري؛ لأنه لما كان منافيا للأمر علم أنه لا يصلح قرينة للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع. واعترض بأنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل: أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبأن قرينة الزمخشري إن الله لا يأمر بالفحشاء لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر، ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى، وأجاب في الكشف عن ذلك فقال: الجواب عن الأولين أن صاحب الكشاف منع أن يراد أمرنا بالطاعة، وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذ يبقى غير بين الوجه، وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك، فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد، ولظهوره لم يتعرض له، وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلا بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام عن الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة، وفيه قول بسلامة الأمير ونظر بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه، وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور، والحق أن ما ذكره من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدة مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب. الزمخشري
[ ص: 44 ] وحكى عن أبو حاتم أبي زيد أن أمرنا بمعنى كثرنا، واختاره الفارسي، واستدل على صحة هذه اللغة بما أخرجه أبو عبيدة أحمد في مسنديهما وابن أبي شيبة في الكبير من حديث والطبراني سويد بن هبيرة: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة».
أي: كثيرة النتاج، وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدي باختلاف الحركة فيقال: أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير: شتر الله تعالى عينه فشترت، وجدع أنفه فجدع، وثلم سنه فثلمت، وقيل: إن المكسور يكون متعديا أيضا وأنه قرأ به الحسن ويحيى بن يعمر وحكى ذلك وعكرمة، النحاس وصاحب اللوامح عن وأن رد ابن عباس، له غير ملتفت إليه لصحة النقل، وفي الكشف أن أمر بمعنى كثر كثير، وأما أمرته المتعدي فقال الفراء في الفائق ما معناه: ما عول هذا القائل إلا على ما جاء في الخبر أعني: مهرة مأمورة، وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضا كما في الآية، كأن الله تعالى قال لها كوني كثيرة النتاج فكانت، فهي إذن مأمورة على خلاف منهية، وقيل: أصله مومرة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل قوله صلى الله عليه وسلم: الزمخشري حيث لم يقل: موزورات. «مأزورات غير مأجورات».
وقرأ كرم الله تعالى وجهه علي وابن أبي إسحاق وأبو رجاء وعيسى بن عمر وعبد الله بن أبي زيد «آمرنا» بالمد وكذلك جاء عن والكلبي ابن عباس والحسن وقتادة وأبي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وأبي عمرو وهو اختيار ونافع يعقوب ومعناه عند الجميع: كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة.
وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي (أمرنا) بالتشديد، وروي ذلك أيضا عن وأبو العالية: علي والحسن والباقر رضي الله تعالى عنهم.
وعاصم وأبي عمرو، ومعناه على هذه القراءة قيل: كثرنا أيضا، وقيل: بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر بالضم إلحاقا له بالسجايا أي صار أميرا، والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكا أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضا خلافا للفارسي؛ لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم.
فحق عليها القول أي: كلمة العذاب السابق بحوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها فدمرناها تدميرا لا يكتنه كنهه ولا يوصف، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعا، فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء، ومن هنا قيل: المعنى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول. الآية، وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .
وصح «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا يقول: لا إله إلا الله، ويل زينب بنت جحش للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون. قال: نعم إذا كثر الخبث». زينب: عن أم المؤمنين
هذا والظاهر أن أمرنا جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية، والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم، وإرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار كالإضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه، وأجاب [ ص: 45 ] عنه بعضهم بأن في الآية تقديما وتأخيرا، والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول، ونظيره على ما قيل قوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وآخرون بأن قوله تعالى: أمرنا إلخ في موضع الصفة لقرية، وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها إلى قوله سبحانه: ونعم أجر العاملين وقول الهذلي وهو آخر قصيدة:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر.