وإما تعرضن عنهم أي: عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر، وقيل: عن السائلين مطلقا، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية، فمعنى أعرض عنه: ولى مبديا عرضه، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت: وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها
والخطاب عام له صلى الله عليه وسلم ولغيره، والمراد بالرحمة على ما أخرج عن ابن جرير ابن عباس ومجاهد الرزق، ونصب والضحاك ابتغاء على أنه مفعول له.
قال في الكشف: قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف، فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم، وهو [ ص: 64 ] من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في الكشاف، وقد يفسر الابتغاء بالانتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير تعرضن أي: مبتغيا، وجعله حالا من الضمير المجرور بعيد.
وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفا والابتغاء مجازا عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضا بالشرط وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور عن وابن المنذر عطاء الخراساني قال: جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ظنوا ذلك من غضب رسول الله عليه الصلاة والسلام عليهم، فأنزل الله سبحانه: وإما تعرضن عنهم الآية.
وفسر الرحمة بالفيء لكن أنت تعلم أن هذا غير ظاهر بناء على ما سمعت من أن هذه السورة مكية، والآية المذكورة ليست من المستثنيات، وكأنه لهذا قيل: إن المعنى: إن ثبت وتحقق في المستقبل أنك أعرضت عنهم في الماضي ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل إلخ. والمراد سببية الثبوت للأمر بالقول فتأمل.
وجوز أن يتعلق ابتغاء بجواب الشرط؛ أعني قوله تعالى: فقل لهم قولا ميسورا أي: إما تعرضن عنهم فقل لهم ذلك ابتغاء رحمة من ربك، وقدم هذا الوجه على سائر الأوجه واعترض بأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب أما وما يلحق بها. وأجيب بأنه ذكره على المذهب الكوفي المجوز للعمل مطلقا أو أراد التعلق المعنوي فيضمر ما ينصبه ويجعل المذكور جاريا مجرى التفسير، والإعراض على هذا على حقيقته، واحتمال كونه كناية مختص بتعلقه بالشرط على ما زعمه الطيبي والحق عدم الاختصاص كما لا يخفى. الزمخشري
وجملة: ترجوها على سائر الأوجه يحتمل أن تكون وصفا لرحمة وأن تكون حالا من الفاعل و من ربك متعلق بترجوها.
وجوز أن يكون صفة لرحمة، والميسور اسم مفعول من يسر الأمر بالبناء للمجهول مثل سعد الرجل ومعناه السهل؛ أي: فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا، قال أمر أن يقول لهم نعم وكرامة، وليس عندنا اليوم فإن يأتنا شيء نعرف حقكم، وقيل: الميسور مصدر وجعل صفة مبالغة أو بتقدير مضاف؛ أي: قولا ذا ميسور، أي: يسر، والمراد به القول المشتمل على الدعاء باليسر مثل: أغناكم الله تعالى ويسر لكم، وفسره الحسن: برزقنا الله تعالى وإياكم، بارك الله تعالى فيكم. ابن زيد
وتعقب ذلك بأن الميسور معناه ذا يسر؛ ولهذا وقع صفة لقول، فأي ضرورة في أن يجعل مصدرا ثم يؤول بذا ميسور، ودفع بأنه إذا أريد القول المشتمل على الدعاء لا يكون القول حينئذ ميسورا بل ميسر لما أرادوه.
وميسور مصدرا مما ثبت في اللغة من غير تكلف فجعله صفة مبالغة أو بتقدير مضاف له وجه وجيه وفيه تأمل.
والحق أن اعتباره مصدرا خلاف الظاهر، وفي الآية على القول الأخير دلالة على أن الدعاء للسائل مما لا بأس به، وعن الإمام رحمه الله تعالى أنه كان لا يرى أن يقال للسائل إذا لم يعط شيئا: رزقك الله تعالى ونحوه؛ قائلا: إن ذلك مما يثقل عليه ويكره سماعه، ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، ولعمري إنه مغزى بعيد، وأفاد بعضهم أن في الآية دليلا على النهي عن الإعراض بالمعنى الأول؛ فإن المعنى: إن أردت الإعراض عنهم فقل لهم قولا ميسورا ولا تعرض، وله وجه وجيه لا يخفى على من له بصر حديد. مالك
واستشكل العز بن عبد السلام جعل: ابتغاء من متعلقات الشرط بأنا مأمورون بالرد الجميل إن انتظرنا شيئا يحصل لنا أو لم ننتظر. وأجاب بأن [ ص: 65 ] المراد بالقول الميسور الوعد بالعطاء فيكون مفاد الآية: لا تعدوا إلا إذا كنتم على رجاء من حصول ما تعدون به فالتقييد بالابتغاء في غاية المناسبة للشرط لأنه لا يحسن الوعد عند عدم الرجاء لما أنه يؤدي إلى الإخلاف وهو كما ترى.