وجعلنا على قلوبهم أكنة أغطية جمع كنان، والمراد بمعونة المقام التكثير أي: أكنة كثيرة.
أن يفقهوه مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من أكنة لا أن جعلنا أو شيئا مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم، أي: منعناهم فقهه والوقوف على كنهه وفي آذانهم وقرا صمما وثقلا عظيما مانعا من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر، وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها، وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة، وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظيا وعلى جعله لفظيا لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى، هذا وقال بعضهم: المراد بالحجاب ما يحجبهم عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة والسلام؛ فقد أخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أنه قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، وإلى ذلك ذهب قتادة وتعقب بأنه لا يلائم: الزجاج، بينك وبين الذين إلخ. إلا بتقدير مضافين، أي: جعلنا بين فهم قراءتك، وأيضا يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة، وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك، وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى: ( وجعلنا ) إلخ تصريح بما اقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم.
وعن أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فأمنه الله تعالى وذكر له عليه الصلاة والسلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجابا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه، وهو عندي مما لا بأس به وأن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على الجبائي نعم هو دون الأول عند من يتأمل. أن الله تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء،
[ ص: 88 ] وقيل: المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلى الله عليه وسلم وذاته الكريمة.
فقد أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وابن مردويه معا في الدلائل والبيهقي رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت: أسماء بنت أبي بكر تبت يدا أبي لهب أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إلى جنبه فقال وأبو بكر لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: أبو بكر: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فجاءت حتى قامت على فلم تر النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا أبي بكر بلغني أن صاحبك هجاني. فقال أبا بكر، لا ورب هذا البيت ما هجاك. فانصرفت وهي تقول: قد علمت أبو بكر: قريش أني بنت سيدها. وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال يا رسول الله، إنها لم ترك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حال بيني وبينها أبو بكر: جبريل عليه السلام». عن
وذكر الإمام أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات؛ قوله تعالى في سورة الكهف: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا .
وقوله سبحانه في النحل: أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وقوله جل وعلا في سورة حم الجاثية: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الآية. فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه: وإذا قرأت القرآن جعلنا إلخ. واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعا يمنع من الرؤية قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضرا أو حواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجابا مستورا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعا لهم من الرؤية انتهى.
وقال بعض المحققين: إن حمل الحجاب على ما روي من حديث مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن أسماء الإمام أيضا، ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب إلخ. من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام.
والخبر الذي أخرجه وغيره عن الدارقطني ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه متى ذهبت».
فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضا وهو بحث آخر فليتدبر. ثم إن ما روي عن ليس نصا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل، وجعل أسماء ما تقدم حكاية لما قالوا: الزمخشري قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب على معنى: جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلا وكفرا من اتصافهم بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الإخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه [ ص: 89 ] قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى، وقد يقال: حيث كان الكلام مسوقا لتعداد قبائحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها، نعم اختيار هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك. الزمخشري
وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده أي: غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون: بالله تعالى واللات مثلا، ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة، و وحده عند مصدر الثلاثي يقال: وحده يحده وحدا وحدة كوعده يعده وعدا وعدة، وهو ساد مسدا لحال بمعنى واحدا، وقيل: هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيحاد، ومذهب الزمخشري أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد. سيبويه
ومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية، وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا، وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالا من كل منهما أي: وإذا ذكرت ربك موحدا له أو موحدا بالذكر.
ولوا على أدبارهم هربوا أو نفروا نفورا فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما. وجوز أن يكون مفعولا لأجله أي: ولوا لأجل النفور والانزعاج، وأن يكون حالا على أنه جمع نافر أي: ولوا نافرين من ذلك، والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وأخرج وغيره عن ابن جرير ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل. ابن عباس