وأخرج ابن جرير وإسحاق بن راهويه في مسنده في تفسيره، وابن مردويه في المعرفة عن والبيهقي أبي مسعود عقبة بن عامر قال: جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وقيل لغروبها وهو المروي عندنا عن «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني [ ص: 132 ] كرم الله تعالى وجهه. علي
وأخرجه ابن مردويه والطبراني وصححه، وغيرهم عن والحاكم ابن مسعود، وغيره عن وابن المنذر وروي عن ابن مسعود، زيد بن أسلم والنخعي والضحاك وإليه ذهب والسدي، الفراء وابن قتيبة، وأنشد لذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالأفلاك الدوالك
وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال، ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل، وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب، ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه، ودلف بالفاء إذا مشى مشية المقيد، وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره، ووله إذا ذهب عقله وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك، وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين السابقين وإن قيل: إن الانتقال في الغروب أتم؛ لأنه انتقال من مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول، وقيل: إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد؛ أعني الدلك المعروف وهو أظهر في الزوال؛ لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها، وقد يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهار ليلة الإسراء الظهر، وقد صح أن جبريل عليه السلام ابتدأ بها حين علم النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة في يومين، وقال دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها أمر بصلاتين الظهر والعصر، وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة واحدة الظهر أو العصر، واللام للتأقيت متعلقة بأقم، وهي بمعنى بعد كما في قول المبرد: متمم بن نويرة يرثي أخاه:
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ومنه: كتبته لثلاث خلون من شهر كذا، وتكون بمعنى عند أيضا، وقال هي للتعليل؛ لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة. الواحدي:
إلى غسق الليل أي: إلى شدة ظلمته، كما قال وغيره وهو وقت العشاء. الراغب
وأخرج في الوقف عن ابن الأنباري أن ابن عباس نافع بن الأزرق قال له: أخبرني ما الغسق؟ فقال: دخول الليل بظلمته، وأنشد قول زهير بن أبي سلمى:
ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، قال الشاعر:
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وهو عنده وقت المغرب، وروي ذلك عن وأصله من السيلان؛ يقال: غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كأن الظلمة تنصب على العالم، وقيل: المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المغيا وبضم ما بعد إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس، واختاره جماعة من مجاهد، الشيعة واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس، ووقت المغرب موسع إلى انتصاف الليل، وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك مما رواه العياشي بإسناده عن عبيدة، وزرارة عن أبي عبد الله أنه قال في هذه الآية: إن الله [ ص: 133 ] تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه وهو مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة.
والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر، وغسق الليل وقت العشاء كما ينبئ عنه إقحام الغسق وعدم الاكتفاء بإلى الليل، والجار والمجرور متعلق بأقم، وأجاز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة، أي: ممدودة إلى الليل والأول أولى، وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان أبو البقاء جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم يروها - من شهد - أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة بواطنهم، كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه الصلاة والسلام، ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلاة من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر؛ فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر، ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات، ثم إن المستدل من الشيعة بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز ما لم يضم إلى ذلك شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين والاثنتين، ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب؛ ولذا لم يرتضه الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء منهم، نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر بعض الأحاديث الصحيحة كحديث أبو جعفر وهو في صحيح ابن عباس مسلم بالمدينة. صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جمعا
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر.
واختلف في تأويله؛ فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب في القديم وتقديما فقط في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم، وخص الشافعي جواز الجمع بالمطر في المغرب والعشاء، وهذا التأويل مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مالك عنه أيضا: مسلم وكون المراد ولا مطر كثير لا يرتضيه ذو إنصاف قليل، والشذوذ غير مسلم، ومنهم من أوله بأنه كان في غيم فصلى صلى الله عليه وسلم الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها، وفيه أنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر إلا أنه لا احتمال في المغرب والعشاء، ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة والسلام أخر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت الصورة صورة جمع، وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، ويرده أيضا ما صح عن جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر،عبد الله بن شقيق قال: يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، فجاء رجل من ابن عباس بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال أتعلمني بالسنة لا أم لك، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال ابن عباس: عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت فسألته فصدق مقالته، أبا هريرة ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا قول الإمام خطبنا أحمد والقاضي حسين من الشافعية واختاره منهم الخطابي والمتولي والروياني.
وقال النووي: هو المختار في التأويل، ومذهب جماعة من الأئمة جواز للحاجة لمن لا يتخذه [ ص: 134 ] عادة، وهو قول الجمع في الحضر ابن سيرين وأشهب من أصحاب وحكاه مالك، الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام وعن الشافعي، أبي إسحق المروزي، وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ويؤيده ظاهر ما صح عن ابن المنذر ورواه ابن عباس أيضا أنه لما قال: مسلم قيل له: لم فعل ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته وهو من الحرج بمعنى المشقة، فلم يعلله بمرض ولا غيره، ويعلم مما ذكرنا أن قول جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث الترمذي في الجمع ابن عباس بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشئ من عدم التتبع. نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح؛ فقد صرحوا بأنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه.
وقال ابن الهمام: إن حديث معارض بما في ابن عباس من حديث ليلة التعريس أنه صلى الله عليه وسلم قال: مسلم «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى».
وللبحث في ذلك مجال.
ومذهب الإمام عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا أبي حنيفة بعرفات فيجمع فيها بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا، واستدل بما استدل. وفي الصحيحين وسنن وغيره ما لا يساعده على التخصيص، وأنت تعلم أن الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام رضي الله تعالى عنه فالمحتاط لا يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى وقت فيه خلاف، وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم الأحوط، وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع، هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن الغاية خارجة، واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف ما ذهب إليه الإمام أبي داود رضي الله تعالى عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم، وطلب خفيف وإزالة خبث مغلظ يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة، وألحق بهما سائر سنن الصلاة المتقدمة كتعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع وسبع ركعات، ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين غروب الشمس وغروب الشفق؛ أي شفق كان في أكثر الإعراض، ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد من غسق الليل وقت العشاء وفسر الغسق باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن أول أبي حنيفة حين يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الخمرة في الأفق الغربي لأن الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب، ولا يأبى ذلك أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو في اللغة الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا، وروي ذلك عن وقت العشاء أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ورواه وعائشة عبد الرازق عن وعن أبي هريرة وبه قال عمر بن عبد العزيز، الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي، واختاره المبرد وثعلب، وما رواه عن الترمذي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبي هريرة «أول وقت العشاء حين يغيب الأفق».
ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه، نعم ذهب [ ص: 135 ] صاحباه إلى أنه الحمرة وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، ورواه وابن عمر أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف ظاهر الرواية عنه، والصحيح المفتى به عندنا ما جاء في ظاهر الرواية، وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن نجيم وغيرهما، وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع إلى قولهما وقال: إنه الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون إثباته مع نقل الكافة عن الكافة خلافه خرط القتاد، وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول كما سمعت حتى أن لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن البيهقي رضي الله تعالى عنهما. ابن عمر
وما رواه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدارقطني «الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة».
قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف على رضي الله تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في ابن عمر فقال أول وقت العصر الإمام: هو إذا صار ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال وقالا: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وفتوى المحققين على قوله رحمة الله تعالى عليه بل قال ابن نجيم: إن الإفتاء بغيره لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته: رفع الغشاء عن وقتي العصر والعشاء.
وقرآن الفجر عطف على مفعول: «أقم» أو نصب على الإغراء كما قال الزجاج والجمهور على الأول، والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن وأبو البقاء ابن عباس وسميت قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة على ومجاهد، ابن علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وهاهنا إذ ورد تجوزا فحمله على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح علاقة معتبرة إلا بالتكلف، وجعل سبح بمعنى صلى لأن التسبيح بمعنى التنزيه البالغ والمصلي مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل بالتكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن التسبيح بمعنى قول: سبحان الله ليقال: تجوز عن الصلاة بما هو مندوب فيها، وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه؛ فإن القرآن جزء من الصلاة الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير، وبأن مذهبهما في التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه، ولو كان كما ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث.
وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال: في الآية دلالة على وجوب لأن التقدير فيها: وأقم قرآن الفجر، والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة، وزعم أن كون المعنى: صلوا الفجر غلط من وجهين: الأول: أنه صرف عن الحقيقة بغير دليل، والثاني أن القراءة في صلاة الفجر فتهجد به فيما بعد يأباه؛ إذ لا معنى للتهجد بصلاة الفجر، وفيه أن الدليل قائم وهو أقم لاشتهار أقم الصلاة دون أقم القراءة، وضمير «به» فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا، وذكر [ ص: 136 ] بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن، وقال الإمام: إن في الآية دلالة على أنه يسن التغليس في صلاة الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر على معنى أقم قرآن الفجر، والأمر للوجوب، والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح حينئذ، ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل.
وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب، وما ذكر قول في المسألة لكنه لا يفيد المطلوب؛ لأن صلاة الفجر اسم للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم إسفار، والأخبار الصحيحة تدل على سنية الإسفار بها.
كخبر وهو كما قال: حسن صحيح الترمذي «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر».
وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء؛ إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه رواية أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم الأجر أو لأجوركم أو كما قال، وروي بسنده الصحيح عن الطحاوي: إبراهيم قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير، ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين؛ صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر ابن مسعود: كما يفيده لفظ البخاري. عن
فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ ليمتد الوقوف، ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث.
وخبر رضي الله تعالى عنها: عائشة «كان صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس».
حمل الغلس فيه بعض أصحابنا على غلس داخل المسجد، ويأباه قولها: ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس؛ إذ لا يمكن حمل هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على غلس داخل المسجد، وكون المراد: ما يعرفهن أحد في داخل المسجد من الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن. والظاهر ما أشرنا إليه، وكذا جعل الجملة حالا من «نساء» أو صفة لها كأنه قيل: فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن، وقيل: كان ذلك في يوم غيم، ويبعده «كان» فإنها شائعة الاستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ، وقول ما رأيت... إلخ. يفيد أن لا سابقية له. وقال بعضهم: ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود: فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل. ابن مسعود؛
وذكر أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الإسفار، وهو قول الإمام الطحاوي وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الإسفار وهو الذي [ ص: 137 ] يفيده حديث أبي حنيفة وغيره، والله تعالى أعلم، ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد. الترمذي
وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز وجل: إن قرآن الفجر حيث لم يقل سبحانه: «إنه كان مشهودا».
أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححاه وجماعة عن والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير ذلك: أبي هريرة «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار».
وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال:
ثم قال «اقرؤوا إن شئتم: أبو هريرة: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ». «قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر».
والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت، وكذا تلتقي الطائفتان، وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير؛ لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد.
وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد؟ فيه خلاف، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.
وقيل: يشهد الكثير من المصلين في العادة، وقيل: من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة، وقيل: تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت، وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا المراد من قوله تعالى: إن قرآن الفجر كان مشهودا ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله: وهذا هو المراد، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له بما سمعت لا ينبغي أن يقال في غيره هذا هو المراد، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلق كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل.