وهذا التفسير مروي عن الفراء واختاره والزجاج وغيره لقوله تعالى: الزمخشري فربكم الذي برأكم متخالفين أعلم بمن هو أهدى سبيلا أسد طريقا وأبين منهاجا، وفسر الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها؛ أي: على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو ضابط له وقاهر، وروي ذلك عن مجاهد رضي الله تعالى عنهما ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة، ومن مشهور كلامهم العادات قاهرات، وكذا تفسير ابن عباس لها بالدين وكلا التفسيرين دون الأولين. ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه. ابن زيد
وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسا مشرقة حرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وإن كانت نفسا كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة والذي خبث لا يخرج إلا نكدا واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية؛ ولذا اختلفت آثارها، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى قريبا، ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل لاختيار فيهما فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا: إن ذلك لأمر ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضا في نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأزل وطلبها لذلك بلسان حالها، والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير مجعول وإنما المجعول وجوده وإبرازه على طبق ما هو عليه في نفسه فاعملوا فكل ميسر لما خلق له، ومن وجد خيرا فليحمد الله تعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض: إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي هو مقتضى ذاته عز وجل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين الأولين.
وقال بعض المتأخرين من فلاسفة الإسلام المتصدين للجمع برأيهم بين الشريعة والفلسفة: إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة، واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج عن الحالة الطبيعية فيكون ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين، وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب كما أن الصحة منها.
وفي الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
وفي الأثر: «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه».
أي: بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصوا أو لبقوا على [ ص: 151 ] فطرتهم لكن مسهم الشيطان ففسدت عليهم فطرتهم الأصلية.
فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه:
ولولا المزعجات من الليالي ما ترك القطا طيب المنام
ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله تعالى ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولذا قيل: الأنبياء أطباء، وهم أعرف بالداء والدواء، ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا لعروضهما لهم ورخصة في حلوقهما بهم لم يكونا يعرضان ولا يلحقان فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان؛ الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمرا آخر، وانظر إلى طبيعة التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من وجه، فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم سعيد شقي ملتذ، ولكن لذته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته، وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك فسبحان الحكيم المالك فتثبت؛ فكم قد زلت في هذا المقام أقدام أعلام كالأعلام؛ نسأل الله تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم اعلم أنه روي عن رضي الله تعالى عنه أنه قال: لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران، قال ذلك حين تذاكروا القرآن. فقال أبي بكر الصديق لم أر آية أرجى من التي فيها: عمر: غافر الذنب وقابل التوب قدم الغفران قبل قبول التوبة، وقال لم أر آية أرجى من: عثمان: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم .
وقال لم أر أرجى من: علي كرم الله تعالى وجهه: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية.
وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء الله تعالى لكن ما قاله لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد: كل أحد مطلقا يعمل على شاكلته فافهم. الصديق