[ ص: 161 ] «البحث السادس في الذي دلت عليه الأخبار أن مستقر الأرواح بعد المفارقة مختلف؛ فمستقر أرواح الأنبياء عليهم السلام في أعلى عليين، وصح أن مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان» وهو يؤيد ما ذكر، ومستقر أرواح الشهداء في الجنة ترد من أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وروي في أرواح أطفال المؤمنين ما هو قريب من ذلك. آخر كلمة تكلم بها صلى الله عليه وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى»
وروى عن ابن المبارك كعب قال: جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا.
ولعل هذا كما قال ابن رجب في عوام الشهداء وما تقدم في خواصهم أو لعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق والمبطون إلى غير ذلك، وأما مستقر أرواح سائر المؤمنين فقيل في الجنة أيضا، وهو نص الإمام الشافعي.
وقد أخرج الإمام عن مالك مرفوعا: كعب بن مالك ورواه «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه». في مسنده وخرجه الإمام أحمد من طريق النسائي وخرجه مالك ورواه خلق كثير. ابن ماجه
وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء.
وقال إن لله تعالى في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء، يجتمع فيها أرواح المؤمنين ومستقر أرواح الكفار في سجين. وهب بن منبه:
وفي حديث أم بشر أن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار، وتشرب من النار، وتأوي إلى جحر في النار، يقولون: ربنا لا تلحق بنا إخواننا، ولا تؤتنا ما وعدتنا.
وقيل: مستقر أرواح الموتى أفنية قبورهم، وحكى هذا ابن حزم عن عامة أهل الحديث، واستدل له بعضهم بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عمر «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى».
وبأنه صلى الله عليه وسلم حين زار الموتى قال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين».
ورجح أن مستقر أرواح ما عدا الشهداء بأفنية القبور، وفيه أنه إن أريد أن الأرواح لا تفارق الأفنية فهو خطأ يرده نصوص الكتاب والسنة، وإن أريد أنها تكون هناك وقتا من الأوقات كما روي عن ابن عبد البر الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت؛ أولها إشراق على قبورها، وهي في مقرها. فهو حق لكن لا يقال: مستقرها أقنية القبور، وعول بعض المحققين على أن الأرواح حيث كانت لها اتصال لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وبذلك ترد السلام وتعرف المسلم، ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار، وقال بعضهم: لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودها إليه في أسرع وقت حيث يشاء الله تعالى ذلك، نعم جاء في حديث مجاهد: ما يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها حيث قال فيه في صفة قبض روح المؤمن: فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين، ويقول الرب تعالى شأنه: ردوا عبدي إلى مضجعه؛ فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. البراء بن عازب
وفي لفظ: ردوا روح عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أن أردهم فيها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: منها خلقناكم الآية.
لكن قال الحافظ ابن رجب: إن حديث وحده لا يعارض الأحاديث الكثيرة المصرحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء، وقوله تعالى: البراء منها خلقناكم إلخ باعتبار الأبدان، وقالت طائفة: مستقر الأرواح مطلقا في السماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام وعن شماله، ويدل عليه ما في الصحيحين عن من حديث المعراج ففيه: أبي ذر لجبريل: من هذا؟ قال: آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، وأهل اليمين هم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار. لما فتح علونا السماء الدنيا [ ص: 162 ] فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت
ويجاب بأن المراد أنه عليه السلام يرى هذين الصنفين من جهة يمينه وجهة شماله وهو يجامع كون أرواح كل فريق في مستقرها من الجنة والنار؛ فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسوف وهو في الأرض، والجنة ليست فيها، ورآهما وهو في السماء، والنار ليست فيها، وفي حديث لأبي هريرة في الإسراء ما يؤيد ما قلنا. والنسفي في بحر الكلام جعل الأرواح على أربعة أقسام: أرواح الأنبياء عليهم السلام تخرج من جسدها ويصير مثل صورتها مثل المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي إلى قناديل كأرواح الأنبياء عليهم السلام، وأرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة، وأرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار ففي سجين؛ في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم من ذلك الأجساد اه.
وما ذكره في أرواح المطيعين مخالف لما صح من أنها تتمتع في الجنة، وفي الإفصاح أن المنعم من الأرواح على جهات مختلفة؛ منها ما هو طائر في شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنها ما يأوي إلى قناديل تحت العرش ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير، ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة، ومنها ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم، ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها وتزورها، ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليه السلام، ومنها ما هو في كفالة آدم عليه السلام، ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام اه، قال وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع وارتضاه القرطبي: الجلال السيوطي.
وأخرج عن ابن أبي الدنيا قال: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وهو إن صح ليس على إطلاقه. مالك
وقيل في مستقر الأرواح غير ذلك حتى زعم بعضهم أن مستقرها لعدم المحض وهو مبني على أنها من الإعراض وهي الحياة وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد يرده الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم، ويعجبني في هذا الفصل ما ذكره الإمام العارف ابن برجان في شرح أسماء الله تعالى الحسنى حيث قال: والنفس مبراة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم، وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس، وهو للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابه، والروح يوصف بالحياة بإحياء الله تعالى شأنه له، وموته خمود إلا ما شاء الله تعالى يوم خمود الأرواح، والجسم يوصف بالموت حتى يحيا بالروح، وموته مفارقة الروح إياه، وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمنا فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربه عز وجل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته النفسانية تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو، وحقيقته الروحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرور ونعيم، ولذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام قائما في قبره يصلي وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى، فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما، وإن كان شقيا لم يفتح له فرمي من علو إلى الأرض اه.
وفيه القول [ ص: 163 ] بالمغايرة بين الروح والنفس، وبهذا التحقيق تندفع معارضات كثيرة واعتراضات وفيرة، ويعلم أن حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ليس نصا في أن الروح على القبر إذ يفهم منه أن الذي في القبر حقيقته النفسانية المتصلة بالروح اتصالا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وللروح مع ذلك أحوالا وأطوارا لا يعلمها إلا الله تعالى؛ فقد تكون مستغرقة بمشاهدة جمال الله تعالى وجلاله سبحانه ونحو ذلك وقد تصحو عن ذلك الاستغراق وهو المراد برد الروح في خبر: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله تعالى روحي فأرد عليه السلام».
والذي ينبغي أن يعول عليه مع ما ذكر أن الأرواح وإن اختلف مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل الله تعالى جزاء عملها لكن لها جولانا في ملك الله تعالى حيث شاء جل جلاله ولا يكون إلا بعد الإذن وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب والزلفى من الله تعالى حتى إن بعض الأرواح الطاهرة لتظهر فيراها من شاء الله تعالى من الأحياء يقظة، وأن أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر وقد تتلاقى أرواح الأموات والأحياء مناما ولا ينكر ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالات لا أصل لها، وذلك لا يلتفت إليه لكن لا ينبغي أن يبنى على ذلك حكم شرعي لاحتمال عدم الصحة وإن قامت قرينة عليها، وما صح من أن ثابت بن قيس بن شماس خرج مع إلى حرب خالد بن الوليد مسيلمة فاستشهد رضي الله تعالى عنه وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من الجند نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه؛ إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالدا فمره أن يبعث إلي درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق، فأتى الرجل خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع وأتى بها وحدث رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته، وقد ذكر ذلك أبا بكر وغيره مجاب عنه بأن ذلك كان بإجازة الوارث وهي بنته لغلبة ظن صدق الرؤيا بما قام من القرينة ولو لم تجز لم يسغ ابن عبد البر رضي الله تعالى عنه ذلك بمجرد الرؤيا، وقيل: إن لأبي بكر لم ير الرد ففعل ذلك من حصة بيت المال، ومثل هذه القصة قصة أبا بكر مصعب بن جثامة وعوف بن مالك، وقد ذكرها ابن القيم في كتاب الروح وهي أغرب مما ذكر بكثير، وربما يؤذن لأرواح بعض الناس في زيارة أهليهم كما ورد في بعض الآثار، وبعض الأرواح تحبس في قبرها أو حيث شاء الله تعالى عن مقامها كروح من يموت وعليه دين استدانه في محرم لا مطلقا كما هو المشهور، وتحقيقه في شرح الشمائل للعلامة ابن حجر.
ثم اعلم أن اتصال الروح بالبدن لا يختص بجزء دون جزء، بل هي متصلة مشرقة على سائر أجزائه، وإن تفرقت وكان جزء بالمشرق وجزء بالمغرب، ولعل هذا الإشراق على الأجزاء الأصلية لأنها التي يقوم بها الإنسان من قبره يوم القيامة على ما اختاره جمع، واعلم أيضا أن الروح على القول بتجردها لا مستقر لها بل لا يقال إنها داخل العالم أو خارجه كما سمعت وإنما المستقر حينئذ للبدن الذي تتعلق به، وقد نص بعض الصوفية على أنه لا مانع من أن تتعلق نفس ببدنين فأكثر، بل هو واقع عندهم، وذكر بعضهم أن أحد البدنين هو البدن الأصلي والآخر مثالي يظهر للعيان على وجه خرق العادة، وقال آخر: إن الآخر من باب تطور الروح وظهورها بصورة على نحو ظهور جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي، وظهور القرآن لحافظه بصورة الرجل الشاحب [ ص: 164 ] يوم القيامة، والفلاسفة قالوا: لا يجوز أن تتعلق نفس واحدة بأبدان كثيرة؛ لأنه يلزم أن يكون معلوم أحدها معلوم الآخر، ومجهول أحدها مجهول الآخر، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، ولا يخفى أن هذا الدليل يدل على أن كل إنسانين يعلم أحدهما ما لا يعلم الآخر فإن نفسهما متغايرتان فلم لا يجوز وجود إنسانين يتعلق ببدنهما نفس واحدة، ويكون كل ما علمه أحدهما علمه الآخر لا محالة، وما يجهله أحدهما يكون مجهولا للآخر لا بد لعدم الجواز من دليل، وعلى ما ذكره هؤلاء الصوفية يجوز أن تتعلق الروح ببدن في الجنة وببدن آخر حيث شاء الله تعالى بل يجوز أن تظهر في صور شتى في أماكن متعددة على حد ما قالوه في جبريل عليه السلام أنه في حال ظهوره في صورة دحية أو أعرابي غيره بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، وأنت تعلم ما يقولون في تجلي الله تعالى في الصور وسمعت خبر: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته».
ومن هنا قالوا: من عرف نفسه فقد عرف ربه فافهم الإشارة، ولعمري هي عبارة، ثم إن أرواح سائر الحيوانات من البهائم ونحوها قيل: تكون بعد المفارقة في الهواء ولا اتصال لها بالأبدان، وقيل: تعدم ولا يعجز الله تعالى شيء، ومن الناس من قال: إن كان للحيوانات حشر يوم القيامة كما هو المشهور الذي تقتضيه ظواهر الآيات والأخبار فالأولى أن يقال ببقاء أرواحها في الهواء أو حيث شاء الله تعالى، وإن لم يكن لها حشر كما ذهب إليه وأول الظواهر فالأولى أن يقال بانعدامها، هذا وبقيت أبحاث كثيرة تركناها لضيق القفص واتساع دائرة الغصص، ولعل فيما ذكرناه هنا مع ما ذكرناه فيما قبل كفاية لأهل البداية وهداية لمن ساعدته العناية، والله عز وجل ولي الكرم والجود، ومنه سبحانه بدء كل شيء وإليه جل وعلا يعود. الغزالي