إلا أن يشاء الله استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين، وقول اغترارا برد [ ص: 248 ] ابن عطية إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الإنصاف، وهو مفرغ من أعم الأحوال. الطبري:
وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن، والجار والمجرور في موضع الحال؛ أي: لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة الله عز وجل بأن تذكر، قال في الكشف: إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال، فبقي أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة الله تعالى.
ورد بما يصلح أن يكون تأييدا لا ردا، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات؛ أي: لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن؛ لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به، وإذنه فيه فيكون مآل المعنى: لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول، وجوز أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا، والمقصود منه التأبيد؛ أي: ولا تقولن ذلك أبدا، ووجه ذلك في الكشف بأنه نهي عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبدا، وأشار إلى أنه هو مراد لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى: الزمخشري وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر؛ لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى: لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى، والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك، فإذا لا تقولنه أبدا يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل، وأن قوله: فاعل ذلك غدا أي: مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غدا غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي، فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرض التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفا أخذا من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأول، وأن أمته صلى الله عليه وسلم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكون الاستثناء متعلقا بقوله تعالى: إني فاعل بأن يكون استثناء مفرغا مما في حيزه من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذ إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى: إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى: إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله مشيئة الله تعالى عدم الفعل، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب.
وقال الخفاجي: إذا كان الاستثناء متعلقا ب «إني فاعل» والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى: إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه، أما على مذهب أهل السنة فظاهر، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه، وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين، فما قيل: إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلا: إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فأنا فاعله استقلالا، فإن اقترنت فلا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل.
وقد شاع المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته، وأنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال الذي عليه دين لغيره قد طالبه به: والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله تعالى، أن يكون حانثا إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة، وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء [ ص: 249 ] كما لو قال: والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع. وقد أجاب عنه الاعتراض على بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوها مختلفة؛ فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير له الكلام كأنه لا حكم له، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال: قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبرا قاطعا أو يلزم به حكم، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى، والمعاصي لا يصلح ذلك فيها، قال: وهذا الوجه أحد محتملات الآية، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والأقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقا أو كاذبا وهو أيضا ممكن في الآية، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه؛ لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحا. المرتضى
وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل، ويدين المديون وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء، والرد عليهم غني عن مثل ذلك هذا، ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد ب «إن شاء الله تعالى» بل على التقييد بالشرط مطلقا ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب.
وقال الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى: الراغب: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة إلخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله: امرأته طالق إن شاء الله تعالى. انتهى.
وفي الحديث: «من حلف على شيء فقال: إن شاء الله تعالى فقد استثنى».
فما قيل: إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه: إلا أن يشاء الله ليس بسديد فكذا ما قيل: إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على التقييد ب «إن شاء الله تعالى» لغوي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية، بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر.
واذكر ربك تعالى؛ أي: مشيئة ربك، فالكلام على حذف مضاف، وذكر مشيئة تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى، وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت: إذا نسيت أي: إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسيا لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال. وقد أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهم عن وابن المنذر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن ابن عباس عليه الرحمة، وأخرج الإمام أحمد عن ابن المنذر في رجل حلف ونسي أن يستثني قال: له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن جبير من طريق ابن أبي حاتم عمرو بن دينار عن أنه قال: من حلف على يمين فإن الثنيا حلب ناقة قال: وكان عطاء يقول: ما دام في مجلسه، وأخرج طاوس أيضا عن ابن أبي حاتم إبراهيم قال: يستثني [ ص: 250 ] ما دام في كلامه، وعامة الفقهاء على ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب. ابن عباس
ويحكى أنه بلغ المنصور أن رضي الله تعالى عنه خالف أبا حنيفة في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له ابن عباس هذا يرجع إليك؛ أنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك، فاستحسن كلامه. أبو حنيفة:
ومن غريب ما يحكى أن رجلا من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رءوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه: يا فلان، إني لأعجب من رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه ابن عباس أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى، فسئل: كيف وجدت علماء بغداد؟ فقال:
رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغا من العلم يعترض به على رضي الله تعالى عنهما، فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم والإنصاف، إن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل، والله تعالى أعلم بصحة النقل. ابن عباس
لا يقال: إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا: إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه.
وقال بعضهم: إن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثني ولو بعد حين بخلاف غيره.
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه في الكبير بسند متصل عن والطبراني رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت، ثم قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين، وقيل: ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه، والتقدير في الآية: كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى. ابن عباس
وفي الحديث: «لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا أتركها إن شاء الله تعالى، أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمرا فيما بعد» ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا.
وجوز أن يكون المعنى: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي يجب لها التوبة والاستغفار، وقيل: المعنى: واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية، أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي، و نسيت على هذا منزل منزلة اللازم، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق.
وحمل الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها، فإذا أراد أن المراد من الآية: واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى، وأمر الارتباط كما في سابقه، وإن أراد أنها تدل على قتادة لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم، فالأمر أسهل، ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول. الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند [ ص: 251 ] ذكرها
وأخرج ابن أبي شيبة في شعب الإيمان وغيرهما عن والبيهقي أنه قال في الآية: أي اذكر ربك إذا غضبت، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان، وأمر هذا القول نظير ما مر. عكرمة
وقل عسى أن يهديني ربي أي: يوفقني لأقرب من هذا أي: لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي رشدا إرشادا للناس ودلالة على ذلك.
وإلى هذا ذهب وقد فعل ذلك عز وجل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، وكأنه تهوين منه عز وجل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولا بقوله سبحانه: الزجاج، أم حسبت إلخ، وهو متعلق بمجموع القصة، وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى: إذ أوى الفتية إلى الكهف كأنه قيل: اذكر إذ أوى الفتية إلخ، وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي.
وقال هو متعلق بقوله تعالى: الجبائي: واذكر ربك إلى آخره والمعنى عنده: ادع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيرا ومنفعة «فهذا» إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و (أقرب) على معناه الحقيقي، ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات، وقيل: إنه متعلق بالمتعاطفات قبله، وهذا إشارة إلى ما تضمنته من الخير أمرا ونهيا كأنه قيل: افعل كذا ولا تفعل كذا، واطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيرا ومنفعة، وقد هدي صلى الله عليه وسلم في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة، ولا يكاد يحصى وهو كما ترى، ولعله على علاته أقرب مما نقل عن وقال الجبائي، معنى الآية: عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد، ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية، وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب الله تعالى الكريم عن ذلك. ابن الأنباري:
وأخرج من طريق البيهقي المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول: إذا نسي الإنسان الاستثناء فتوبته أن يقول: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا وحكاه عن أبو حيان محمد الكوفي المفسر، والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر، وهو قول لا دليل عليه.