إن الخليفة إن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم
وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر، ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد [ ص: 270 ] وهو الحق؛ أي: أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار، يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر، ومنه المعدن؛ لاستقرار الجواهر فيه.
وعن عدن جنة من الجنان وهي بطنانها، ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة ابن مسعود: تجري من تحتهم الأنهار وهم في الغرفات آمنون يحلون فيها من أساور من ذهب من الأولى للابتداء، والثانية للبيان، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور، وهذا ما اختاره وغيره. الزمخشري
وجوز في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول أبو البقاء ويدل عليه قوله تعالى: الأخفش، وحلوا أساور وأن تكون بيانية؛ أي: شيئا أو حليا من أساور.
وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية، وجوز فيها أيضا أن تتعلق ب «يحلون» وهو كما ترى، والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم، وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي، وقال معرب دستواره، وقيل: جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير، فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس، وعن الراغب: عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار، وأنشد ابن الأنباري:
والله لولا صبية صغار كأنما وجوههم أقمار
تضمهم من العتيك دار أخاف أن يصيبهم إقتار
أو لاطم ليس له أسوار لما رآني ملك جبار
ببابه ما وضح النهار
ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة.
وقد أخرج عن ابن مردويه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم».
وأخرج في الأوسط الطبراني في البعث عن والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا».
وأخرج عبد بن حميد عن وابن المنذر قال: عكرمة «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور».
وأخرج الشيخان عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء».
وأخرج وغيره عن أبو الشيخ قال: كعب الأحبار «إن لله تعالى ملكا - وفي رواية - في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته، يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة، ولو أن حليا منها أخرج لرد شعاع الشمس».
والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة؟ مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم، وإن التزمت أن فيه ذلك فقد حليت [ ص: 271 ] نفسك بحلية الجهل، وخرجت من ربقة العقل، هذا وقرأ أبان عن «من أسورة» بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت. عاصم:
ويلبسون ثيابا خضرا لأن الخضرة أحسن الألوان، والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر، وقيل:
ثلاثة مذهبة للحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن، والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر؛ إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأخرج عن ابن أبي حاتم سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا، وأن أدناها مثل شقيق النعمان، وقيل: يحتمل الانحصار، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس، لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها.
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم كعب قال: لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.
وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن «ويلبسون» بكسر الباء أبي بكر من سندس قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف، وقال لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء، وقال الليث: شيدلة: هو رقيق الديباج بالهندية، وواحده على ما نقل عن ثعلب سندسة.
وزعم بعضهم: أن أصله سندي، وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل: سادس، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية، وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاءوا إلى الإسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال: ما هذا؟ فقالوا: سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس، ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه، لكن لا جرم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها، أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وإستبرق أخرج وغيره عن ابن جرير قتادة أنه غليظ الديباج، وقال وعكرمة ابن بحر: هو ديباج منسوج بذهب، وفي القاموس: هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار اه، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول، وهو كما أخرج عن ابن أبي حاتم معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء، وقال الضحاك هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا، ووقع في شعر ابن قتيبة: المرقش قال:
تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها
وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا، وقيل: أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة، وادعى بعضهم أن الإستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين، ونقل عن أنه استصوب هذا، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق، وقرأ الأزهري ابن محيصن «واستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع؛ جعله كما يقتضيه ظاهر كلام [ ص: 272 ] ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق، وظاهر كلام الأهوازي في الإقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا.
وقال صاحب اللوامح: قرأ ابن محيصن: «واستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك، فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين، ويمكن أن يقال:
إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى، لكن ذكر أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو، قال ابن جني وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا، وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا. انتهى. أبو حيان:
وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون، ونكرا لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا وإستبرقها بل وما يتخيل من ذلك.
وقد أخرج عن البيهقي أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في الجنة شجرة تنبت السندس، منه تكون ثياب أهل الجنة.
وأخرج الطيالسي في التاريخ والبخاري وغيرهم عن والنسائي قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب أهل الجنة، أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل يتشقق عنها ثمر الجنة. ابن عمر
وظاهره أنها من سندس كانت أو من إستبرق كذلك، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم، وإلى القلب أحب، وفي القيمة أغلى، وفي العين أحلى، وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم، وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر:
غرائر في كن وصون ونعمة يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا
وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة، وقيل: بنى الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم، وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية متكئين فيها على الأرائك جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة، فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة.
وأخرج ذلك عن البيهقي وقال ابن عباس، الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات، وروي تفسيرها بذلك عن الراغب: عكرمة.
وقال الأرائك الفرش في الحجال، والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية، وحكى الزجاج: في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية، وأيا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم؛ فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين، والآثار ناطقة بأنهم يتكئون ويتنعمون. ابن الجوزي
فقد أخرج [ ص: 273 ] عن ابن أبي حاتم الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه».
وأخرج وجماعة عن ابن المنذر أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ. ابن عباس
وقرأ ابن محيصن: «علرائك» بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على فيها فيحذف ألف على لتوهم سكون لام التعريف، ومثله قول الشاعر:
فما أصبحت عارض نفسي برية،
يريد على الأرضنعم الثواب ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها وحسنت أي الأرائك أو الجنات مرتفقا متكأ، وقد تقدم آنفا الكلام فيه