خلق السماوات والأرض حيث خلقتهما قبل خلقهم ولا خلق أنفسهم أي: ولا أشهدت بعضهم [ ص: 296 ] خلق بعض؛ كقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم فكلا ضميري الجمع المنصوب والمجرور عائد على إبليس وذريته وهم المراد بالمضلين في قوله تعالى: وما كنت متخذ المضلين عضدا وإنما وضع ذلك موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، والعضد في الأصل ما بين المرفق إلى الكتف ويستعار للمعين كاليد وهو المراد هنا ولكونه نكرة في سياق النفي عم، وفسر بالجمع والإفراد لرءوس الآي، وقيل: إنما لم يجمع لأن الجميع في حكم الواحد في عدم الصلاحية للاعتضاد؛ أي: وما كنت متخذهم أعوانا في شأن الخلق أو في شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي فضلا عن الاستبدال الذي لزم فعلهم بناء على الشركة في بعض أحكام الربوبية، وإرجاع ضمير ( أنفسهم ) إلى إبليس وذريته قد قال به كل من ذهب إلى إرجاع ضمير أشهدتهم إليهم، وعلل ذلك العلامة شيخ الإسلام بقوله حذرا من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ثم قال: ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين، ويلتزم التفكيك بناء على عود المعنى إليه؛ فإن نفي إشهاد الشياطين الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولي حضور الولي خلق المتولي وحيث لا حصول لا مصحح للتولي قطعا، وأما إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مداراته الإنكار المذكور في شيء على أن إشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضا في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل وهو المناط للإنكار المذكور.
وفي الآية تهكم بالكفار وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به، وإيثار نفي الإشهاد على نفي شهودهم ونفي اتخاذهم أعوانا على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته سبحانه وإرادته عز وجل بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير إحضار واتخاذ، وإنما قصارى ما يتوهم فيهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله جل جلاله ولم يكد ذلك يكون اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه: يجوز أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلها وكثيرا ما يراد منهما ذلك فيدخل فيه الكفار فتفيد الآية نفي إشهاد الشياطين خلقهم الذي من مداراته الإنكار المذكور من غير حاجة إلى التزام التفكيك الذي هو خلاف المتبادر، وظاهر كلامه وكذا كلام كثير حمل الإشهاد المنفي على حقيقته.
وجوز أن يراد به المشاورة مجازا وهو الذي يقتضيه ظاهر ما في البحر ولا مانع على هذا أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلهما فكأنه قيل: ما شاورتهم في خلق أحد لا الكفار ولا غيرهم، فما بال هؤلاء الكفار يتولونهم وأدنى ما يصحح التولي كون الولي ممن يشاور في أمر المتولي أو أمر غيره ويكون نفي اتخاذهم أعوانا مطلقا في شيء من الأشياء بعد نفي مشاورتهم في الخلق ليؤدي الكلام ظاهرا عموم نفي مدخليتهم بوجه من الوجوه رأيا وإيجادا وغير ذلك في شيء من الأشياء، ولعل الآية حينئذ نظير قوله تعالى: لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من وجه، وقيل: قد يراد من نفي الإشهاد في جانب المعطوف نفي المشاورة ومنه نفي أن يكونوا خلقوا حسب مشيئتهم، ومنه نفي أن يكونوا خلقوا كاملين فإنه يقال: خلق [ ص: 297 ] كما شاء بمعنى خلق كاملا قال الشاعر:
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وعلى هذا يكون في الخلق من أشهد خلق نفسه، بمعنى أنه خلق كاملا، ولا يخفى ما فيه، وقد يكتفى بدلالة ذلك على أن نفي الكمال بأقل من هذه المئونة فافهم. وزعم أن الكاملين شهدوا حقيقة خلق أنفسهم بمعنى أنهم رأوا وهم أعيان ثابتة خلقهم؛ أي: إفاضة الوجود الخارجي الذي لا يتصف به المعدوم عليهم لا أرى أن كاملا يقدم عليه أو يصغي إليه، وقال الإمام بعد حكاية القول برجوع الضميرين إلى الشياطين: الأقرب عندي عودهما على الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك؛ فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها، والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات وهو في الآية - أولئك الكفار - لأنهم المراد بالظالمين في قوله تعالى: بئس للظالمين بدلا انتهى.
وقيل: المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء، وقيل: المعنى عليه: ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين، ويعضده قراءة أبي جعفر والجحدري والحسن وشيبة: «وما كنت» بفتح التاء خطابا له صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ما صح لك الاعتضاد بهم، ولعل وصف أولئك الظالمين بالإضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلى الله عليه وسلم وهو إضلال ظاهر وقيل: كل ضال مضل لأن الإضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال، والثاني لا يخلو عنه ضال، وقيل: الضميران للملائكة، والمعنى: ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون، ويرده: وما كنت متخذ المضلين عضدا إلا أن يقال: هو نفي لاتخاذ الشياطين أعوانا فيستفاد من الجملتين نفي صحة عبادة الفريقين، وقال ابن عطية:
الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم، وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى. ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفا.
واستدل بها على أنه لا ينبغي وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب إليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل، وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها، ولعل أفرض اليهودي [ ص: 298 ] أو الكلب قد مات في كلام الاستعانة بالكافر الفاروق رضي الله تعالى عنه لعد ما استخدم فيه من الأمور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضا.
وقد حكى الشيعة أن كرم الله تعالى وجهه قال حين صمم على عزل عليا وأشار عليه معاوية رضي الله تعالى عنهما بإبقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة: يمنعني من ذلك قوله تعالى: ابن عباس وما كنت متخذ المضلين عضدا فلا أتخذ عضدا أبدا، وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل. معاوية
وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي «ما أشهدناهم» بنون العظمة. وابن مقسم:
وقرأ كرم الله تعالى وجهه: «متخذا المضلين» علي
على إعمال اسم الفاعل، وقرأ الحسن «عضدا» بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين، وقرأ وعكرمة: عيسى «عضدا» بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم، وعنه أيضا أنه قرأ بفتحتين.
وقرأ شيبة في رواية وأبو عمرو هارون وخارجة والخفاف وأبي زيد: «عضدا» بضمتين، وروي ذلك عن أيضا، وكذا روي عنه أيضا أنه قرأ بفتحتين، وهو على هذا إما لغة في العضد كما في البحر ولم يذكره في القاموس وإما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذ لا استعارة. الحسن
وقرأ «عضدا» بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته، نعم في القاموس عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة. الضحاك: