وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية؛ أي: أي شيء منعهم أن يؤمنوا أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك إذ جاءهم الهدى أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة ويستغفروا ربهم بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل. واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر.
وقال بعضهم: لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده، فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم، ولا يخفى أنه ليس بشيء، وقيل: ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل: ما منعهم أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا إلا أن تأتيهم سنة الأولين وهم من أهلك من الأمم السالفة، وإضافة السنة إليهم قيل: لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل منع والكلام بتقدير مضاف؛ أي: [ ص: 301 ] ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا؛ قاله وجوز صاحب الفينان تقدير «انتظار»؛ أي: ما منعهم إلا انتظار الهلاك، وقدر الزجاج، «تقدير» أي: ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم، وقال: الواحدي
إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثني، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى: أو يأتيهم العذاب قبلا منتظر قطعا، يميل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما.
واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان، فلو كان منعهم للطلب لزم الدور. ودفع بأن المراد بالطلب سببه؛ وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء إلخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئا عن العناد، واعترض أيضا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعا.
وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى، وقيل: المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي؛ فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبا حقيقيا قلبيا، ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عز وجل، فكأنه قيل: ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعده على تركه، ولا يخلو عن دغدغة.
وقيل: الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك: أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب؛ فكأنه قيل: ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدما عليه، ومتى كان الاستحقاق مانعا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل، وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سببا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر، وإن شئت فقل: هو مانع من الإيمان، ومن هنا قيل: إن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية: ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له، وربما يقال بناء على هذا: إن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون: منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله: منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص، وأما سوء الاستعداد وخباثة الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله:
[ ص: 302 ]
ولا عيب فيهم ...
البيت. والمراد نفي أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم يصلح أن يكون حجة لهم أصلا كأنه قيل: لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي حيث إن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلا. انتهى.ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد، وإنكار ذلك مكابرة، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد، وفي معناه تقدير الإرادة؛ أي: إرادته تعالى وعليه اقتصر العز بن عبد السلام، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي؛ فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث بشر رسول؛ لأن المعنى: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم.
وادعى الإمام تعدد الموانع، وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال: قال الأصحاب: إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم، فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما، وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال، ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال: المراد فقدان الموانع المحسوسة انتهى فليتأمل فيه.
والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع؛ أي: أو يأتيهم العذاب أنواعا وألوانا أو هو بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد؛ أي: عيانا فإن أبا عبيدة حكاهما معا بهذا المعنى، وأصله بمعنى المقابلة فإذا دل على المعاينة، ونصبه على الحال، فإن كان حالا من الضمير المفعول فمعناه: معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا، وإن كان من العذاب فمعناه معاينا لهم أو للناس. وقرأت طائفة: «قبلا» بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم.
وذكر ابن قتيبة أنه قرئ: «قبلا» بفتحتين؛ أي: مستقبلا. وقرأ والزمخشري أبي بن كعب وابن غزوان عن «قبيلا» بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة؛ أي: عيانا ومقابلة. طلحة: