ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا هم السلاطين والسادات والأمرا فاصحبهم وتأدب في مجالسهم
وخل حظك مهما قدموك ورا واستغنم الوقت واحضر دائما معهم
واعلم بأن الرضا يختص
ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل لا علم عندي وكن بالجهل مستترا
إلى أن قال:
وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم وجه اعتذارك عما فيك منك جرا
وقل عبيدكم أولى بصفحكم فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا
هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم فلا تخف دركا منهم ولا ضررا
وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف، وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه، فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن رضي الله تعالى عنهما موقوفا: تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى، وتخرجوا من الكبر، وفي الجامع: الجلوس مع الفقراء من التواضع، وهو من أفضل الجهاد، وفي رواية: أحبوا الفقراء وجالسوهم، ومن فوائد مجالستهم أن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه، ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق [ ص: 308 ] وتحمل المن وغير ذلك، نعم إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس؛ ولذا عظم فضلها، وقيل: إن في قوله تعالى: ابن عمر واصبر نفسك مع الذين إلخ دون: ودم مع الذين... إلخ إشارة إلى ذلك، ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم؛ فإن نفسه الشريفة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة.
وقال بعض أهل الأسرار: إنما قيل: واصبر نفسك دون: واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم كان مع الحق فأمر صلى الله عليه وسلم بصحبة الفقراء جهرا بجهر، واستخلص سبحانه قلبه له سرا بسر تريد زينة الحياة الدنيا أي: تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم.
وقد جاء في الحديث: «من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه، فليتق الله تعالى في الثلث الآخر».
ومضار مجالستهم كثيرة، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء، وأدناها ضررا تحمل منهم؛ فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق، ومن نوابغ الزمخشري: طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن، وقال بعض الشعراء:
لنا صاحب ما زال يتبع بره بمن، وبذل المن بالبر لا يسوى
تركناه لا بغضا ولا عن ملالة ولكن لأجل المن يستعمل السلوى
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا نهي عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس، وعدوا من إطاعته التواضع له؛ فإنه يطلبه حالا وإن لم يفصح به مقالا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر قالوا: فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين، وعد من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال: إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيار، ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم؛ فإن لذة العشق بذلك أتم؛ ألا ترى قول القائل:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
ولا يخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم؛ فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو:
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
نعم، المغلوب وكذا المأمور معذور، وعند الضرورة يباح المحظور، وما أحسن قول القتيل: الشهاب
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
[ ص: 309 ] وإذا هم كتموا يحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح
وما ذكر أولا يكون مستمسكا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه؛ فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببا لضلال كثير من الناس وداعيا للإنكار عليهم، وقد استدل بعض بالآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاءوا به ليس من جهته سبحانه؛ لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر، وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قدسية وأنوار إلهية، فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم، واعترض بأنه لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول؛ فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون، والحرص على إظهار الحق أكثر، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق، وفيه نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وأضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر، ولذا ترى كثيرا من الناس ينكرون عليه ويكرون، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد إكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله:
ينكر المرء منه أمرا فينها ه نهاه فينكر الإنكارا
تنثني عنه ثم تثني عليه ألسن تشبه الصحاة سكارى
يحلون فيها من أساور من ذهب قيل: هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية ويلبسون ثيابا خضرا إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور من سندس الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف وإستبرق الأخلاق والمكاسب، وعبر عنها بالإستبرق لكونها أكثف متكئين فيها على الأرائك قيل: أي: أرائك الأسماء الإلهية واضرب لهم مثلا رجلين إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه، وقال الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن النيسابوري: جعلنا لأحدهما وهو النفس جنتين هما الهوى والدنيا من أعناب الشهوات وحففناهما بنخل حب الرياسة وجعلنا بينهما زرعا من التمتعات البهيمية وفجرنا خلالهما نهرا من القوى البشرية والحواس وكان له ثمر من أنواع الشهوات وهو يحاوره أي: يجاذب النفس أنا أكثر منك مالا؛ أي: ميلا وأعز نفرا من الأوصاف المذمومة وهو ظالم لنفسه في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى لأجدن خيرا منها قال ذلك غرورا بالله تعالى وكرمه فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها من العمر وحسن الاستعداد. انتهى.
وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا قال ابن عطاء: للطالبين له سبحانه لا للجنة وخير عقبا للمريدين والباقيات الصالحات قيل: هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره؛ فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا اعوجاج فيها وهي خير المنازل، وقد تفسر بما يعمها وغيرها [ ص: 310 ] من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة قال ابن عطاء: دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه ( عرضوا على ربك صفا ) إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه: بل زعمتم إلخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفا، وقيل: الأنبياء عليهم السلام صف، والأولياء صف، وسائر المؤمنين صف، والمنافقون والكافرون صف، وهم آخر الصفوف، فيقال لهم: ( قد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه ووضع الكتاب أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص، ولبعضهم:
وأودعت الفؤاد كتاب شوق سينشر طيه يوم الحساب
ووجدوا ما عملوا حاضرا قال أبو حفص: أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم قيل: أي: ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه، وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه وكان الإنسان أكثر شيء جدلا لأنه مظهر الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.