( ومن باب الإشارة في الآيات ) على ما ذكره بعض أهل الإشارة فوجدا عبدا من عبادنا فيه إشارة إلى أن لله تعالى خواص أضافهم سبحانه إليه وقطعهم عن غيره، وأخص خواصه عز وجل من أضافه إلى الاسم الجليل وهو اسم الذات الجامع لجميع الصفات أو إلى ضمير الغيبة الراجع إليه تعالى، وليس ذاك إلا حبيبه الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم آتيناه رحمة من عندنا وهي مرتبة القرب منه عز وجل وعلمناه من لدنا علما وهو العلم الخاص الذي لا يعلم إلا من جهته تعالى ، وقال ذو النون : العلم اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان .
وقال قدس سره : هو الاطلاع على الأسرار من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته عن كل الإرادات وكان شبحا بين يدي الحق بلا تمني ولا مراد ، وقيل : هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياءه ما فيه صلاح عباده . وقال بعضهم : هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال، وأخص منه الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته وأخص من ذلك علم الأسماء والنعوت الخاصة، وأخص منه علم الذات . الجنيد
وذكر بعض العارفين أن من العلوم ما لا يعلمه إلا النبي ، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج كما ذكره القسطلاني في مواهبه وغيره ( وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى، ثم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري، وعلم خيرني فيه وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السلام يذكرني به، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي ) . انتهى ، ولله تعالى علم استأثر به عز وجل لم يطلع عليه أحدا من خلقه قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قاله عن ابتلاء إلهي كما قدمنا ، وقال فارس كما في أسرار القرآن : إن موسى عليه السلام كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله تعالى، والخضر كان أعلم من موسى فيما وقع إلى موسى عليه السلام ، وقال أيضا : إن موسى كان باقيا بالحق والخضر كان فانيا بالحق قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا [ ص: 23 ] قيل : علم الخضر أن موسى عليه السلام أكرم الخلق على الله تعالى في زمانه وأنه ذو حدة عظيمة ففزع من صحبته لئلا يقع منه معه ما لا يليق بشأنه .
وقال بعضهم : آيسه من نفسه لئلا يشغله صحبته عن صحبة الحق قال : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال بعضهم : لو قال كما قال الذبيح عليه السلام : ستجدني إن شاء الله من الصابرين لوفق للصبر كما وفق الذبيح ، والفرق أن كلام الذبيح أظهر في الالتجاء وكسر النفس حيث علق بمشيئة الله تعالى وجدانه واحدا من جماعة متصفين بالصبر ولا كذلك كلام موسى عليه السلام فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها سلكا طريق السؤال الذي يتعلق بذل النفس في الطريقة وهو لا ينافي التوكل وكذا الكسب قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا كأنه عليه السلام أراد دفع ما أحوجهما إلى السؤال من أولئك اللئام وفيه نظر إلى الأسباب وهو من أحوال الكاملين كما مر في حكاية الحسن البصري وحبيب ، ففي هذا إشارة إلى أنه أكمل من الخضر عليهما السلام قال هذا فراق بيني وبينك أي : حسبما أردت ، وقال النصرابادي : لما علم الخضر بلوغ موسى إلى منتهى التأديب وقصور علمه عن علمه قال ذلك لئلا يسأله موسى بعد عن علم أو حال فيفتضح .
وقيل : خاف أن يسأله عن أسرار العلوم الربانية الصفاتية الذاتية فيعجز عن جوابه فقال ما قال وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا قيل : كان حسن الوجه جدا وكان محبوبا في الغاية لوالديه فخشي فتنتهما به ، والآية من المشكل ظاهرا لأنه إن كان قد قدر الله تعالى عليهما الكفر فلا ينفعهما قتل الولد وإن لم يكن قدر سبحانه ذلك فلا يضرهما بقاؤه ، وأجيب بأن المقدر بقاؤهما على الإيمان إن قتل وقتله ليبقيا على ذلك .
وقيل: إن المقدر قد يغير ولا يلزم من ذلك سوى التغير في تعلق صفته تعالى لا في الصفة نفسها ليلزم التغير فيه عز وجل ، وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب .
واستشكل أيضا بأن المحذور يزول بتوفيقه للإيمان فما الحاجة إلى القتل ، وأجيب بأن الظاهر أنه غير مستعد لذلك فهو مناف للحكمة وكأن الخضر عليه السلام رأى فيما قال نوع مناقشة فتخلص من ذلك بقوله : وما فعلته عن أمري أي : بل فعلته بأمر الله عز وجل ولا يسأل سبحانه عما أمر وفعل، ولعل قوله لموسى عليه السلام ما قال حين نقر العصفور في البحر سد لباب المناقشة فيما أمر الله تعالى شأنه ، ولعل علم مثل هذه المسائل من العلم الذي استأثر الله سبحانه به ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وأول بعضهم مجمع البحرين بمجمع ولاية الشيخ وولاية المريد، والصخرة بالنفس، والحوت بالقلب المملح بملح حب الدنيا وزينتها، والسفينة بالشريعة، وخرقها بهدم الناموس في الظاهر مع الصلاح في الباطن، وإغراق أهلها بإيقاعهم في بحار الضلال، والغلام بالنفس الأمارة، وقتله بذبحه بسيف الرياضة، والقرية بالجسد، وأهلها بالقوى الإنسانية من الحواس، واستطعامهم بطلب أفاعيلها التي تختص بها، وإباء الضيافة بمنعها إعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها، والجدار بالتعلق الحائل بين النفس الناطقة وعالم المجردات وإرادة الانقضاض بمشارفة قطع العلائق وإقامته بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس، ومشيئة اتخاذ الأجر بمشيئة الصبر على شدة الرياضة لنيل الكشوف وإفاضة الأنوار، والمساكين بالعوام، والبحر الذي يعملون فيه ببحر الدنيا، والملك بالشيطان، والسفن التي يغصبها العبادات الخالية عن الانكسار والذل والخشوع، والأبوين المؤمنين بالقلب، والروح، والبدل الخير بالنفس المطمئنة والملهمة، والكنز [ ص: 24 ] بالكمالات النظرية والعلمية، والأب الصالح بالعقل المفارق الذي كمالاته بالفعل، وبلوغ الأشد بوصولهما بتربية الشيخ وإرشاده إلى المرتبة الكاملة، وهذا ما اختاره ، واختار غيره تأويلا آخر هو أدهى منه ، هذا والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب
النيسابوري