قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادئ الولادة ولم أك بغيا أي ولم أكن زانية ، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى: من قبل أن تمسوهن ، أو لامستم النساء ونحوه كما قيل : [ ص: 78 ] دخلتم بهن وبنى عليها .
وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه إما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صريحة فيه، ومنها ما في النظم الكريم ، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها ولم يمسسني بشر مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب ، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده ، ولقائل أن يقول : إنه ثم كناية عن النكاح فقط كما هنا واستوعبت الأقسام هاهنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد ، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال : إنما أنا رسول ربك على أنه قيل : إن في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها، فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم ، وقيل : المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة ولم أك بغيا تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء ، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانا بأن انتفاء الفجور لازم لها .
وكأنها عليها السلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السلام ( لأهب لك غلاما زكيا ) النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف ، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم .
وبغي فعول عند وأصله بغوي فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولا يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإن كان بمعنى فاعل كصبور ، واعترضه المبرد في كتاب التمام بأنه لو كان فعولا لقيل بغو كما قيل نهو عن المنكر، ورد بأنه لا يقاس على الشاذ وقد نصوا على شذوذه فهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء، وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال ابن جني بمعنى فاعل ، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول ، ووجه عدم اللحوق بأنه للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء ، وقال بعضهم : هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث، ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغي يبغيها الرجال للفجور بها ، وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال ، وأيا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه، فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل ، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة
أبو البقاء