وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن قال : قال ابن زيد عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام : أنا أكفيك الكلام فإما ترين من البشر أحدا أي آدميا كائنا من كان . وقرأ فيما روى عنه أبو عمرو ابن الرومي ( ترئن ) بالإبدال من الياء همزة . وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين .
وقال : إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال . وقرأ الزمخشري طلحة وأبو جعفر وشيبة ( ترين ) بسكون الياء وفتح النون خفيفة . قال : هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول ابن جني الأفوه الأودي :
أما ترى رأسي أزرى به مأس زمان ذي انتكاس مؤوس
(فقولي) له إن استنطقك إني نذرت للرحمن صوما وقرأ رضي الله تعالى عنه ( صياما ) والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف زيد بن علي عبد الله وقرأ به فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة ، وقيل إطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك . وقال بعضهم : المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فهو منسوخ في شرعه كما ذكره أنس بن مالك الجصاص في كتاب الأحكام .
وروي عن رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي . أبي بكر
وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام . وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان [ ص: 87 ] قربة في شرع من قبلنا . فتردد في الجواز وعدمه ناشئ من قلة الاطلاع ، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من القفال مريم عليها السلام خاصة . فقد أخرج عن ابن أبي حاتم حارثة بن مضرب قال : كنت عند فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلم؟ قال : إنه نذر صوما لا يكلم اليوم إنسيا، فقال له ابن مسعود : بئس ما قلت، إنما كانت تلك المرأة، قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا- فكلم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإنه خير لك . والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى : ابن مسعود فلن أكلم اليوم إنسيا أي : بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت أن لا تكلم إنسيا بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمنذور، ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته . وقالت فرقة : أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل : وهو الأظهر . قال : الفراء العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام . ويفهم من قوله تعالى : (إنسيا) دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم إنسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي . وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن .