وقيل : إنما خاف عليه السلام لأنه رأى أمرا هائلا صدر من الله عز وجل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره، وليس ذلك كنار إبراهيم عليه السلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم، فلذلك لم يخف عليه السلام منها كما خاف موسى عليه السلام من الحية ، وقيل : إنما خاف لأنه عرف ما لقي من ذلك الجنس حيث كان له مدخل في خروج أبيه من الجنة ، وإنما عطف النهي على الأمر للإشعار بأن عدم المنهي عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط ، وقوله تعالى: (سنعيدها) أي : بعد الأخذ (سيرتها) أي : حالتها (الأولى) التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها ، ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه السلام وإيذانا بكونها مسخرة له عليه السلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا تعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء ، وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره بأخذها ونهيه عن الخوف تأنيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون ، ولعل هذا مأخذ تلك الدعوى .
قيل : بلغ عليه السلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها ، وفي رواية الإمام وغيره عن أحمد أنه لما أمره الله تعالى بأخذها أدنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له ملك : أرأيت يا وهب موسى لو أذن الله تعالى بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال : لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده، ثم وضعها على فم الحية، حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين .
والرواية الأولى أوفق بمنصبه الجليل عليه السلام .
وأخرج عن ابن أبي حاتم رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام نودي المرة الأولى: يا ابن عباس موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية خذها ولا تخف فلم يأخذها ثم نودي الثالثة إنك من الآمنين فأخذها ، وذكر في تفسيره أنه قيل له في المرة الثالثة : مكي سنعيدها سيرتها الأولى ، ولا يخفى أن ما ذكر بعيد عن منصب النبوة فلعل الخبر غير صحيح .
والسيرة فعلة من السير تقال للهيئة والحالة الواقعة فيه ثم جردت لمطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشيء ، ومن ذلك استعمالها في المذهب والطريقة في قولهم: سيرة السلف ، وقول الشاعر :
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها فأول راض سيرة من يسيرها
واختلف في توجيه نصبها في الآية فقيل : إنها منصوبة بنزع الخافض والأصل إلى سيرتها أو لسيرتها وهو كثير، وإن قالوا : إنه ليس بمقيس ، وهذا ظاهر قول : إنها مفعول ثان لنعيدها على حذف الجار نحو الحوفي واختار موسى قومه وإليه ذهب ابن مالك وارتضاه ابن هشام ، وجوز أن يكون أعاد منقولا من عاده بمعنى عاد إليه ، ومنه قول الزمخشري زهير:
فصرم حبلها إذ صرمته وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين ، والظاهر أنه غير التوجيه الأول لاعتبار النقل فيه والخافض يحذف من أعاد من غير نظر إلى ثلاثيه وتعدى عاد بنفسه مما صح به النقل ، فقد نقل الطيبي عن أن عادك في البيت متعد بمعنى صرفك ، وكذا نقل الفاضل اليمني . وفي المغرب العود الصيرورة ابتداء وثانيا، ويتعدى بنفسه وبإلى وعلى وفي واللام . الأصمعي
[ ص: 179 ] وفي مشارق اللغة للقاضي عياض مثله ، ونقل عن الحديث ( ؟ ) أعدت فتانا يا معاذ
. وقال : هي بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال ، وجوز أن يكون النصب على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها الأولى . أبو البقاء
وتعقبه قائلا : إن سيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بوساطة في ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه أبو حيان العرب ، وحاصله أن شرط الانتصاب على الظرفية هنا وهو الإبهام مفقود ، وفي شرح التسهيل عن نحاة المغرب أنهم قسموا المبهم إلى أقسام منها المشتق من الفعل كالمذهب والمصدر الموضوع موضع الظرف نحو قصدك ولم يفرقوا بين المختوم بالتاء وغيره، فالنصب على الظرفية فيما ذكر غير شاذ ولا ضرورة ، وجوز واستحسنه أن يكون (سنعيدها) مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا ، (وسيرتها) منصوبا على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر أي تسير سيرتها الأولى أي سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك ولك فيها المآرب التي عرفتها . انتهى . الزمخشري
والظاهر أنه جعل الجملة من الفعل المقدر وفاعله حالا ، ويجوز أن يكون استئنافا ، ولا يخفى عليك أن ما ذكره وإن حسن معنى إلا أنه خلاف المتبادر ، هذا والآية ظاهرة في جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كانقلاب النحاس إلى الذهب وبه قال جمع ، ولا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ذلك، وتخصيص الإرادة له ، وقيل : لا يجوز لأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به والحق الأول بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس مثلا ذهبا على ما هو رأي بعض المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا
( على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات ، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا ، وانقلاب العصا حية كان بأحد هذين الاعتبارين، والله تعالى أعلم بأيهما كان ، والذي أميل إليه الثاني فإن في كون خلق البدل انقلابا خفاء كما لا يخفى .