ولا ترى الضب بها ينجحر
وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص، وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم؛ لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال، فلا نسلم عمومها في الجواب، بناء على ما ذكره أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا؛ نحو: سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا، ففي تنكيرها هنا تنبيه على أنه ليس المراد كل قتال حكمه هذا، فإن قتال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأهل الراغب مكة لم يكن هذا حكمه، فقد وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه؛ لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون، فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن قال - عليه الصلاة والسلام - : "أحلت لي ساعة من نهار" - رضي الله تعالى عنهما - ، كما رواه عنه ابن عباس وأخرج [ ص: 109 ] الضحاك، عن ابن أبي حاتم أنه سئل عن هذه الآية، فقال: هذا شيء منسوخ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام، وخالف سفيان الثوري، في ذلك، فقد روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام، فحلف بالله تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام، إلا أن يقاتلوا فيه، وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة، والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار. عطاءوصد أي: منع وصرف عن سبيل الله وهو (الإسلام) قاله أو (الحج) قاله مقاتل، ابن عباس أو (الهجرة) كما قيل، أو (سائر ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات)، فالإضافة إما للعهد أو للجنس، والسدي، وكفر به أي: بالله أو بسبيله، والمسجد الحرام اختار عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار، وأجاز ذلك الكوفيون أبو حيان ويونس والأخفش وأبو علي، وهو شائع في لسان العرب نظما ونثرا، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام، وهو لازم من العطف، وفيه بحث؛ إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت واختار القاضي تقدير مضاف معطوف على صد أي: وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماع، ورد بمنع الإطلاق، ففي التسهيل: إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا سبق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى، جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياسا؛ نحو: (ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلك)؛ أي: مثل أبيه، ونحو: (ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة)، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصورا على السماع، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ما حذف منه، واختار عطفه على سبيل الله تعالى، واعترض بأن عطف الزمخشري وكفر به على وصد مانع من ذلك؛ إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة، وذكر لصحة ذلك وجهان؛ أحدهما أن وكفر به في معنى الصد عن سبيل الله، فالعطف على سبيل التفسير، كأنه قيل: وصد عن سبيل الله أعني كفرا به والمسجد الحرام ، والفاصل ليس بأجنبي، ثانيهما أن موضع وكفر به عقيب والمسجد الحرام إلا أنه قدم لفرط العناية، كما في قوله تعالى: ولم يكن له كفوا أحد حيث كان من حق الكلام: ولم يكن أحد كفوا له. ولا يخفى أن الوجه الأول أولى؛ لأن التقديم لا يزيل محذور الفصل ويزيد محذورا آخر، واختار السجاوندي العطف على الشهر الحرام وضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام، واختار كونه متعلقا بفعل محذوف دل عليه الصد؛ أي: ويصدون عن المسجد الحرام، كما قال سبحانه: أبو البقاء هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر، وقيل: إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام، وهو كما ترى. وإخراج أهله منه وهم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمؤمنون، وإنما كانوا أهله؛ لأنهم القائمون بحقوقه، وقيل: إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة. أكبر عند الله خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش، و(أفعل) من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث، والمفضل عليه محذوف؛ أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد، ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم. والفتنة أكبر من القتل تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي؛ أي: ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أكبر عند الله من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا، وقيل: المراد بالفتنة الكفر، والكلام كبرى لصغرى [ ص: 110 ] محذوفة، وقد سيق تعليلا للحكم السابق ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم عطف على يسألونك بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم، والمقصود الإخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيرا للمؤمنين عنهم، وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، و حتى للتعليل، والمعنى: لا يزالون يعادونكم لكي يردوكم عن دينكم، وقوله تعالى: إن استطاعوا متعلق بما عنده، والتعبير بأن لاستبعاد استطاعتهم، وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض، كما يفرض المحال، وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم، وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا يترتب عليه الغرض، وليس متعلقا بـ(لا يزالون يقاتلونكم)؛ إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة. وذهب إلى أن حتى للغاية، والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع، كما في قوله تعالى: ابن عطية حتى يلج الجمل في سم الخياط وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة، وقد أفاده صدر الكلام، والقول بالتأكيد غير أكيد، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي، ويكون الشرط متعلقا بـ(لا يزالون) فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم، إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلا كما لا يخفى.
ومن يرتدد منكم عن دينه الحق بإضلالهم وإغوائهم أو الخوف من عداوتهم فيمت وهو كافر بأن لم يرجع إلى الإسلام فأولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد؛ للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد، والجمع والإفراد نظرا للفظ والمعنى حبطت أعمالهم أي: صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن، قيل: وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط، وهو ضرب من الكلأ مضر، وفي النهاية أحبط الله - تعالى - عمله أبطله، يقال: حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره، وهو من قولهم: حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وقرئ: (حبطت) بالفتح، وهو لغة فيه.
في الدنيا والآخرة لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى.
وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 227 كسائر الكفرة، ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا، واستدل بالآية على أن الشافعي وذلك بناء على أنها لو أحبطت مطلقا لما كان للتقييد بقوله سبحانه: الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها، فيمت وهو كافر فائدة، والقول بأن فائدته أن (إحباط) جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلا موقوف على الموت على الكفر، حتى لو مات مؤمنا (لا يحبط) إيمانه، ولا عمل يقارنه، وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا يعني له؛ لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد؛ إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل، فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى، وقيل: بناء على أنه جعل الموت عليها شرطا في الإحباط، وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط، واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى، بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب، ولو كان شرطا بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط، وذهب إمامنا - رضي الله تعالى عنه - إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى: أبو حنيفة ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وما استدل به ليس صريحا في المقصود؛ لأنه إنما يتم إذا [ ص: 111 ] كانت جملة ( وأولئك ) إلخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية، وأما لو كانت معطوفة على (الجزاء) وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتبا على الموت على الردة، فلا نسلم تماميته، ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين، وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده بكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة، وما هنا في السبب، فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد، وثمرة الخلاف على ما قيل تظهر الشافعي فإنه يلزمه عند فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم، والوقت باق، الإمام قضاء الصلاة خلافا وكذا الحج، واختلف الشافعيون للشافعي فذهب بعض إلى الأول فيما عدا الصحبة، فإنها ترجع مجردة عن الثواب، وذهب الجل إلى الثاني، وأن أعماله تعود بلا ثواب، ولا فرق بين الصحبة وغيرها، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم. فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة، هل يرجع له عمله بثوابه أم لا؟