الذي جعل لكم الأرض مهدا إلخ يحتمل أن يكون ابتداء كلام منه عز وجل وكلام موسى عليه السلام قد تم عند قوله تعالى : ولا ينسى فيكون الموصول خبر مبتدأ محذوف والجملة على ما قيل : مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه سبحانه لما حكى كلام موسى عليه السلام إلى قوله : لا يضل ربي ولا ينسى سئل ما أراد موسى بقوله : ربي فقال سبحانه : هو الذي جعل إلخ ، واختار هذا الإمام بل قال : يجب الجزم به ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام على أن يكون قد سمعه من الله عز وجل فأدرجه بعينه في كلامه ولذا قال (لكم) دون لنا وهو من قبيل الاقتباس فيكون الموصول إما مرفوع المحل على أنه صفة لربي أو خبر مبتدأ محذوف كما في الاحتمال السابق وإما منصوب على المدح ، واختار هذا ، وعلى الاحتمالين يكون في قوله تعالى : الزمخشري فأخرجنا التفات بلا اشتباه أو على أن موسى عليه السلام قال ذلك من عنده غير سامع له من الله عز وجل ، وقال : فأخرج به بإسناد أخرج إلى ضمير الغيبة إلا أن الله تعالى لما حكاه أسنده إلى ضمير [ ص: 206 ] المتكلم لأن الحاكي هو المحكي عنه فمرجع الضميرين واحد ، وظاهر كلام ابن المنير اختيار هذا حيث قال بعد تقريره : وهذا وجه حسن رقيق الحاشية وهو أقرب الوجوه إلى الالتفات .
وأنكر بعضهم أن يكون فيه التفات أو على أنه عليه السلام قاله من عنده بهذا اللفظ غير مغير عند الحكاية ، وقوله : ( أخرجنا ) من باب قول خواص الملك أمرنا وعمرنا وفعلنا وإنما يريدون الملك أو هو مسند إلى ضمير الجماعة بإرادة أخرجنا نحن معاشر العباد بذلك الماء بالحراثة أزواجا من نبات شتى على ما قيل ، وليس في ( أخرجنا ) على هذا وما قبله التفات . ويحتمل أن يكون ذلك كلام موسى عليه السلام إلى قوله تعالى : ماء وما بعده كلام الله عز وجل أوصله سبحانه بكلام موسى عليه السلام حين الحكاية لنبينا صلى الله عليه وسلم ، والأولى عندي الاحتمال الأول بل يكاد يكون كالمتعين ثم الاحتمال الثاني ثم الاحتمال الثالث وسائر الاحتمالات ليس بشيء ووجه ذلك لا يكاد يخفى . وسيأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف نحو هذه الآية ، والمهد في الأصل مصدر ثم جعل اسم جنس لما يمهد للصبي . ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل إن كان بمعنى (صير) أو حال إن كان بمعنى خلق ، والمراد جعلها لكم كالمهد ، ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته غير منقول لما ذكر ، والمراد جعلها ذات مهد أو ممهدة أو نفس المهد مبالغة ، وجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر من لفظه أي مهدها مهدا بمعنى بسطها ووطأها ، والجملة حال من الفاعل أو المفعول ، وقرأ كثير ( مهادا ) وهو على ما قال المفضل . كالمهد في المصدرية والنقل .
وقال : المهاد اسم والمهد مصدر ، وقال بعضهم : هو جمع مهد ككعب وكعاب ، والمشهور في جمعه مهود ، والمعنى على الجمع جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم أبو عبيد وسلك لكم فيها سبلا أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها ، وللدلالة على أن الانتفاع مخصوص بالإنسان كرر ( لكم ) وذكره أولا لبيان أن المقصود بالذات من ذلك الإنسان وأنزل من السماء من جهتها أو منها نفسها على ما في بعض الآثار ماء هو المطر فأخرجنا به أي بذلك الماء وواسطته حيث إن الله تعالى أودع فيه ما أودع كما ذهب إلى ذلك الماتريدية وغيرهم من السلف الصالح لكنه لا يؤثر إلا بإذن الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافي كونه عز وجل هو المؤثر الحقيقي ، وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على إيجاد ما شاء بلا توسيط شيء كما أوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة .
وقيل : (به) أي : عنده وإليه ذهب الأشاعرة فالماء كالنار عندهم في أنه ليس فيه قوة الري مثلا والنار كالماء في أنها ليس فيها قوة الإحراق وإنما الفرق بينهما في أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الري عند شرب الماء والإحراق عند مسيس النار دون العكس . وزعموا أن من قال : إن في شيء من الأسباب قوة تأثير أودعها الله تعالى فيه فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان وهو لعمري من المجازفة بمكان .
والظاهر أن يقال : فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فإن مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم . ويقوي [ ص: 207 ] هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللا باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه .
واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيبا عرفيا ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء .
وقال الخفاجي : لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى : لنحيي به ولعل هذا أقرب، انتهى .
وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ . وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها وقوله تعالى أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة وقوله سبحانه وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ، أزواجا أي أصنافا أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض .
من نبات بيان وصفة لأزواجا . وكذا قوله تعالى شتى أي : متفرقة جمع شتيت كمريض ومرضى وألفه للتأنيث ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم .
وقالوا : من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله .