وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول، وإما مصدرية حذف عنها الجار ، والتعبير عن بني إسرائيل [ ص: 236 ] بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل، وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله ، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه السلام أن سر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلا فاضرب لهم بعصاك طريقا في البحر مفعول به لاضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي، والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقا يبسا أي يابسا وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفا لطريقا مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره .
وقرأ ( يبسا ) بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدرا أيضا أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصحب وصاحب . ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول الحسن القطامي :
كأن قتود رحلي حين ضمت حوالب غرزا ومعى جياعا
أنه جعل المعى لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا يابسا كما قيل في نطفة أمشاج وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعددا حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعا ، وقيل : يحتمل أن يكون اسم جمع ، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين وإن كانت إحداهما شاذة ، وفي القاموس اليبس بالإسكان ما كان أصله رطبا فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطبا يبس بالتحريك ، وأما طريق موسى عليه السلام في البحر فإنه لم يعهد طريقا لا رطبا ولا يابسا إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقا على ذلك ا هـ .
وهذا مخالف لما ذكره من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت ، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب ، وروي أن الراغب موسى عليه السلام لما ضرب البحر وانفلق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست . وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم : ضرب له في ماله سهما وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما (طريقا) وثانيهما (لهم) .
واختار بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى: أبو حيان أن اضرب بعصاك البحر ، وزعم أن (طريقا) على هذا الوجه مفعول فيه ، وقال : التقدير (فاضرب لهم) موضع طريق أبو البقاء لا تخاف دركا في موضع الحال من ضمير (فاضرب) أو الصفة الأخرى لطريقا والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال وقدمه على سائر الاحتمالات . وقرأ أبو البقاء الأعمش وحمزة ( لا تخف ) بالجزم على جواب الأمر أعني ( أسر ) ، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره وابن أبي ليلى . وقرأ الزجاج أبو حيوة وطلحة ( دركا ) بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك ، وقال والأعمش : الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة ، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم الراغب فرعون وجنوده من خلفكم ولا تخشى أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على لا تخاف ، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع ، وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى ، وقيل : [ ص: 237 ] عطف على المجزوم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى: فأضلونا السبيلا ، وتظنون بالله الظنونا أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله :
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق
وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخريج التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما . والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة ، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولا ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا : إنا لمدركون ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل .