ثم إن تقييد لا يضل بقولنا في الدنيا ولا يشقى بقولنا في الآخرة هو الذي يقتضيه الخبر .
وجوز بعضهم العكس أي فلا يضل طريق الجنة في الآخرة ولا يتعب في أمر المعيشة في الدنيا ، وجعل الأول في مقابلة ونحشره يوم القيامة أعمى والثاني في مقابلة فإن له معيشة ضنكا ثم قال : وتقديم حال الآخرة على حال الدنيا في المهتدين لأن مطمح نظرهم أمر آخرتهم بخلاف خلافهم فإن نظرهم مقصور على دنياهم ، ولا يخفى أن الذي نطقت به الآثار هو الأول ، وذكر بعضهم أنه المتبادر ، نعم ما ذكر لا يخلو عن حسن وإن قيل : فيه تكلف ، وجوز الإمام كون الأمرين في الآخرة وكونهما في الدنيا ، وذكر أن المراد على الأخير لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين لا مطلقا فإن لحق المنعم بالهدى شقاء في الدنيا فبسبب آخر وذلك لا يضر ا هـ ، والمعول عليه ما سمعت ، والمراد من الإعراض عن الذكر عدم الاتباع فكأنه قيل : ومن لم يتبع فإن له معيشة ضنكا أي : ضيقة شديدة وهو مصدر ضنك وكذا ضناكة ولذا يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ، وقد وصف به هنا المؤنث باعتبار الأصل . وقرأ ( ضنكى ) بألف التأنيث كسكرى وبالإمالة . وهذا التأنيث باعتبار تأويله بالوصف ، وعن الحسن تفسيره بالشديد من كل وجه ، وأنشد قول الشاعر : ابن عباس
[ ص: 277 ]
والخيل قد لحقت بنا في مأزق ضنك نواحيه شديد المقدم
والمتبادر أن تلك المعيشة له في الدنيا . وروي ذلك عن عطاء ، ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك على ازديادها خائف من انتقاصها غالب عليه الشح بها حيث لا غرض له سواها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة ، وقيل : الضنك مجاز عما لا خير فيه ، ووصف معيشة الكافر بذلك لأنها وبال عليه وزيادة في عذابه يوم القيامة كما دلت عليه الآيات ، وهو مأخوذ مما أخرجه وابن جبير عن ابن أبي حاتم أنه قال في الآية : يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة ، وقيل : المراد من كونها ضنكا أنها سبب للضنك يوم القيامة، فيكون وصفها بالضنك للمبالغة كأنها نفس الضنك كما يقال في السلطان : الموت بين شفتيه يريدون بالموت ما يكون سببا للموت كالأمر بالقتل ونحوه ، وعن ابن عباس عكرمة ما يشعر بذلك ، وقال بعضهم : إن تلك المعيشة له في القبر بأن يعذب فيه . وقد روى ذلك جماعة عن ومالك بن دينار ابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأبي صالح والربيع والسدي وفي البحر عن ومجاهد أن الآية نزلت في ابن عباس الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، والمراد ضغطة القبر حتى تختلف فيه أضلاعه . وروي ذلك مرفوعا أيضا .
فقد أخرج في ذكر الموت . ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان عن وابن مردويه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة فإن له معيشة ضنكا قالوا : الله ورسوله أعلم قال : عذاب الكافر في قبره، يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون ) . المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له قبره سبعين ذراعا، ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون فيم أنزلت
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد وصححه والحاكم في كتاب عذاب القبر وجماعة عن والبيهقي قال : ( أبي سعيد معيشة ضنكا عذاب القبر ) ولفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، ولفظ عبد الرزاق ضمة القبر ، إلى غير ذلك ومن قال : الدنيا ما قبل القيامة الكبرى قال : ما يكون بعد الموت واقع في الدنيا كالذي يكون قبل الموت . ابن أبي حاتم:
وقال بعضهم : إنها تكون يوم القيامة في جهنم ، وأخرج ذلك ابن أبي شيبة عن وابن المنذر ، وأخرج الحسن عن ابن أبي حاتم قال : المعيشة الضنك في النار شوك وزقوم وغسلين وضريع وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة وما المعيشة والحياة إلا في الآخرة ، ولعل الأخبار السابقة لم تبلغ هذا القائل أو لم تصح عنده ، وأنت تعلم أنها إذا صحت فلا مساغ للعدول عما دلت عليه وإن لم تصح كان الأولى القول بأنها في الدنيا لا في الآخرة لظاهر ذكر قوله تعالى ابن زيد ونحشره إلخ بعد الإخبار بأن له معيشة ضنكا وقرأت فرقة منهم ( ونحشره ) بإسكان الراء وخرج على أنه تخفيف أو جزم بالعطف على محل أبان بن تغلب فإن له إلخ لأنه جواب الشرط كأنه قيل : ومن أعرض عن ذكري تكن له معيشة ضنك ونحشره إلخ . ونقل ابن خالويه عن أبان أنه قرأ ( ونحشره ) بسكون الهاء على إجراء الوصل مجرى الوقف . وفي البحر: الأحسن تخريج ذلك على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء ، وقد قرئ (لربه لكنود) بإسكان الهاء وقرأت [ ص: 278 ] فرقة ( ويحشره ) بالياء يوم القيامة أعمى الظاهر أن المراد فاقد البصر كما في قوله تعالى ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما