يتربصن أي: ينتظرن، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية، فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي من لم يجوز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل، وقيل: إن الجملة الاسمية خبرية بمعنى الأمر؛ أي: ليتربص (المطلقات) ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق؛ لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي، والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله؛ حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب، وفي ذكره متأخرا عن المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي، وقيد (التربص) هنا بقوله سبحانه وتعالى: بأنفسهن وتركه في قوله تعالى: تربص أربعة أشهر لتحريض النساء على (التربص)؛ لأن (الباء) للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الانتظار، وفيه إشعار بكونهن ماثلات إلى الرجال، وذلك مما يستنكفن منه، فإذا سمعن هذا تربصن، وهذا بخلاف الآية السابقة، فإن المأمور فيها (بالتربص) الأزواج، وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه، فذكر (الأنفس) فيها لا يفيد تحريضهم على التربص ثلاثة قروء نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدة، والمفعول به محذوف؛ لأن (التربص) متعد، قال تعالى: ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله أي: يتربصن التزوج، وفي حذفه إشعار بأنهن يتركن التزوج في هذه المدة بحيث لا يتلفظن به، وجوز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف؛ أي يتربصن مضيها، (والقروء) جمع قرء بالفتح والضم، والأول أفصح، وهو يطلق للحيض؛ لما أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني: فاطمة ابنة أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لا، دعي الصلاة أيام أقرائك"، ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول "أن الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الأقراء، ولكنهم يتوسعون في ذلك، فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر، ولعل النكتة المرجحة لاختياره ههنا، أن المراد بالمطلقات ههنا جميع المطلقات ذوات الأقراء الحرائر، وجميعها متجاوز فوق العشرة، فهي مستعملة مقام جمع الكثرة، ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء، فيحصل في الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك، وهذا كما استعمل (أنفسهن) مكان (نفوسهن) للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة.
ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن قال الحمل والحيض؛ أي: لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها، ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها، فتقول وهي حائض: قد طهرت، وكن يفعلن الأول؛ لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع، ولئلا يشفق الرجل على الولد، فيترك تسريحها، والثاني استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة، وهذا القول هو المروي عن ابن عمر: الصادق والحسن وغيرهم، والقول بأن الحيض غير مخلوق في الرحم، بل هو خارج عنه، فلا يصح حمل (ما) على عمومها، بل يتعين حملها على الولد، وهو المروي عن ومجاهد ابن عباس مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم، لكن الاتصاف بكونه حيضا، إنما يحصل له فيه، وما قيل: إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء، فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن، فيجب حمل ما على الحيض، كما حكي عن وقتادة، فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام [ ص: 134 ] وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع، واستدل بالآية على أن عكرمة، إذ لولا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن، قال قولهما يقبل فيما خلق الله - تعالى - في أرحامهن؛ وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب؛ لأن كل ذلك مما خلق الله - تعالى - في أرحامهن، فيجب أن يصدقن فيه، وفيه تأمل. ابن الفرس: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر شرط لقوله تعالى: ( لا يحل ) لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات - حل لهن الكتمان - بل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهن، وهذه طريقة متعارفة يقال: إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك، وقيل: إنه شرط جزائه محذوف – أي: فلا يكتمن - وقوله سبحانه: ( لا يحل ) علة له أقيم مقامه، وتقدير الكلام: (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن؛ لأنه لا يحل لهن)، وفيه: (أن لا يكتمن المقدر) إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي، وهو كما ترى. وبعولتهن أي: أزواج المطلقات جمع (بعل) كعم وعمومة، وفحل وفحولة، والهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، والأمثلة سماعية لا قياسية، ولا يقال: كعب وكعوبة، قاله الزجاح، وفي القاموس: البعل الزوج، والأنثى بعل وبعلة، والرب والسيد والمالك والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر، وقال البعل النخل الشارب بعروقه، عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل: باعلها جامعها، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح، ففي اختيار لفظ (البعولة) إشارة إلى أن أصل الرجعة بالمجامعة، وجوز أن يكون (البعولة) مصدرا نعت به من قولك: بعل حسن البعولة؛ أي: العشرة مع الزوجة، أو أقيم مقام المضاف المحذوف؛ أي: وأهل (بعولتهن الراغب: أحق بردهن إلى النكاح والرجعة إليهن، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها، فالضمير بعد اعتبار القيد أخص من المرجوع إليه، ولا امتناع فيه كما إذا كرر الظاهر، وقيل: بعولة المطلقات أحق بردهن وخصص بالرجعي، وأحق ههنا بمعنى حقيق، عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة، كأنه قيل: للبعولة حق الرجعة؛ أي: حق محبوب عند الله – تعالى - بخلاف الطلاق فإنه مبغوض، ولذا ورد للتنفير عنه: "أبغض الحلال إلى الله - تعالى - الطلاق"، وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة؛ إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى، وقرأ (بردتهن أبي: في ذلك أي: زمان التربص، وهو متعلق بـ أحق أو بردهن .
إن أرادوا إصلاحا أي: إن أراد البعولة بالرجعة إصلاحا لما بينهم وبينهن، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدة عليهن مثلا، وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح؛ حيث جعل كأنه منوط به ينتفي بانتفائه.
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فيه صنعة الاحتباك، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة؛ حيث حذف في الأول بقرينة الثاني، وفي الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل: ولهن عليهم مثل الذي لهم عليهن، والمراد (بالمماثلة) المماثلة في الوجوب، لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال، أخرج وصححه الترمذي والنسائي [ ص: 135 ] عن وابن ماجه عمرو بن الأحوص، أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: وأخرج "ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن"، وكيع وجماعة عن عن أنس - رضي الله تعالى عنهما - ، قال: "إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي؛ لأن الله - تعالى - يقول: ابن عباس ولهن الآية"، وجعلوا مما يجب لهن عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها، والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر، وقيل: صفة لـ مثل وهي لا تتعرف بالإضافة. وللرجال عليهن درجة زيادة في الحق؛ لأن حقوقهم في أنفسهن، فقد ورد أن النكاح كالرق أو شرف فضيلة؛ لأنهم قوام عليهن وحراس لهن، يشاركوهن في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن. والدرجة - في الأصل – المرقاة، ويقال فيها: (درجة) كهمزة، وقال الدرجة نحو المنزلة لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط، كدرجة السطح والسلم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز، وفي الكشف: إن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من درج الصبي إذا حبا، وكذلك الشيخ والمقيد لتقارب خطوهما، والدرجة التي يرتقى عليها؛ لأن الصعود ليس في السهولة كالانحدار والمشي على مستو، فلا بد من تدرج، والدرج المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا، ومنه التدرج في الأمور، والاستدراج من الله، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الانحدار، والرجال جمع رجل، وأصل الباب القوة والغلبة، وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر الرجولية التي بها ظهرت المزية للرجال على النساء، الراغب: والله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام حكيم 228 عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها، والجملة تذييل للترهيب والترغيب.