وقال لهم نبيهم عطف على مثله مما تقدم، وكان توسيط ما تقدم بينهما؛ للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر، وتخلل كلام من جهة المخاطبين، متفرع على السابق، مستتبع للأحق، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم: ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة؛ أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم، ويكون هذا جوابا له، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولا؛ للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له، وبيانه لهم ما استفهموا عنه، مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب؛ لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ، وإن عد من باب [ ص: 168 ] السؤال لتقوية العلم، وهذا بناء على أن القوم كانوا مؤمنين، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ، فعن أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل، فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا؛ أتاه السدي: جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه غيره، فدعاه بلحن الشيخ، فقام فزعا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع، فقال: يا بني، ارجع فنم، فرجع فنام، فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا، فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر لهجبريل، فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه، وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم يأن لك، وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا، ثم جرى ما جرى، فقال: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا فقالوا: ما كنت قط أكذب منك الساعة، واعترضوا وأجيبوا، ثم قالوا: إن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك، فقال ما قص الله تعالى، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية، وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار، وعدم إيقان، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات، وإن لم تطلب منهم؛ جليا للشارد، وتقييدا للوارد، وليزداد الذين آمنوا هدى، والتابوت الصندوق، وهو فعلوت من التوب، وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته، فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت، وأصله توبوت؛ فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول، من التبت؛ لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق، وقرئ: تابوه بالهاء وهي لغة الأنصار، والأولى لغة قريش، وهي التي أمر _ رضي الله تعالى عنه _ بكتابتها في الإمام، حين ترافع لديه في ذلك عثمان زيد وأبان _ رضي الله تعالى عنهما _ ووزنه حينئذ على ما اختاره فاعول؛ لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس، وأنهما من حروف الزيادة فضعيف؛ لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت، وذهب الزمخشري الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث، وأصله عنده تابوة مثل ترقوة، فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل، فذهب منهم واختلف في تحقيق ذلك؛ فقال أرباب الأخبار: هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم _ عليه السلام _ فيه تماثيل الأنبياء جميعهم، وكان من عود الشمشاذ، نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب، ثم إلى بنيه، ثم وثم إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى _ عليه السلام _ فسلط الله تعالى عليهم العمالقة، فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط، فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت؛ سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث عنده ابتلي بالبواسير، وهلكت من بلادهم خمس مدائن، فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به، فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران، وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت
وروي عن _ رضي الله تعالى عنهما _ أنه صندوق التوراة، وكان قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة ابن عباس موسى _ عليه السلام _ فلما طلبت الآية أتى من السماء، والملائكة يحفظونه، وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت، وعن _ رضي الله تعالى عنه _ أنه التابوت الذي أنزل على أبي جعفر أم موسى، فوضعته فيه وألقته في البحر، وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا، فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن كان ما كان، وروي غير ذلك مما يطول، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة، تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى، وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم _ عليه السلام _ وكان [ ص: 169 ] يتحاكم الناس إليه بعد موسى _ عليه السلام _ إذا اختلفوا، فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا، فأخذه العمالقة، ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق، ولا فكرا كذلك فيه سكينة من ربكم أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، فالسكينة مصدر حينئذ، أو فيه نفسه ما تسكنون إليه، وهو التوراة، وقيل: _ وليس بالصحيح كما قاله _ صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها، وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، والجملة في موضع الحال، و ( من ) لابتداء الغاية أو للتبعيض؛ أي: من سكينات ربكم الراغب
وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون هي رضاض الألواح، وثياب موسى، وعمامة هارون، وطست من ذهب، كانت تغسل به قلوب الأنبياء، وكلمة الفرج: لا إله إلا الله الحليم الكريم، وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما أو أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم أبناء عمهما تحمله الملائكة حال من التابوت، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد
حمل زيد متاعي إلى مكة.
إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت، فهو من كلام النبي لقومه، أو إلى نقل القصة وحكايتها، فهو ابتداء خطاب منه تعالى للنبي _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ ومن معه من المؤمنين، وجيء به قبل تمام القصة؛ إظهارا لكمال العناية، وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه لآية عظيمة كائنة لكم، دالة على جعل طالوت ملكا عليكم، أو على نبوة محمد _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر، ولا أخذ من كتاب إن كنتم مؤمنين أي: مصدقين بتمليكه عليكم، أو بشيء من الآيات، و ( إن ) شرطية والجواب محذوف اعتمادا على ما قبله، وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه، وقيل: هي بمعنى إذ.