وقال : جمعت رياح الرحمة؛ لأنها ثلاثة لواقح: الجنوب والصبا والدبور، وأفردت ريح العذاب؛ لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور، وفي الرماني إشارة إلى ما ذكر، وأنت تعلم أن في كلام قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا هبت الريح: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» غفولا عن التأويل الذي تتوافق به القراءتان، وقد ذكر في البحر أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلا منهما متواتر، وأل في الريح للجنس فتعم، وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثري أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث. ابن عطية
[ ص: 30 ] بشرا تخفيف (بشرا) بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي: أرسل الرياح مبشرات، وقرئ «نشرا» بالنون والتخفيف جمع نشور كرسول ورسل، و«نشرا» بضم النون والشين وهو جمع لذلك أيضا، أي أرسلها ناشرات للسحاب، من النشر بمعنى البعث؛ لأنها تجمعه كأنها تحييه لا من النشر بمعنى التفريق؛ لأنه غير مناسب، إلا أن يراد به السوق مجازا، و«نشرا» بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به مبالغة، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لـ(أرسل) لأنه بمعنى نشر، والكل متواتر، وروي عن ابن السميقع أنه قرأ «بشرى» بألف التأنيث.
بين يدي رحمته أي: قدام المطر، وقد استعيرت الرحمة له، ورشحت الاستعارة أحسن ترشيح، وجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية وبشرا من تتمة الاستعارة داخل في جملتها، والالتفات إلى نون العظمة في قوله تعالى: وأنزلنا من السماء لإبراز كمال العناية بالإنزال؛ لأنه نتيجة ما ذكر من إرسال الرياح، أي: أنزلناه بعظمتنا بما رتبنا من إرسال الرياح من جهة العلو التي ليست مظنة الماء أو من السحاب أو من الجرم المعلوم، وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك.
ماء طهورا الظاهر أنه نعت لـ(ماء) وعليه قيل معناه: بليغ الطهارة زائدها، ووجه في البحر المبالغة بأنها راجعة إلى الكيفية باعتبار أنه لم يشبه شيء آخر مما في مقره أو ممره أو ما يطرح فيه كمياه الأرض، وفسره بما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره، وتعقبه ثعلب بأنه إن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء، وقال غيره: إن أخذ التطهير فيه يأباه لزوم الطهارة، والمبالغة في اللازم لا توجب التعدي. الزمخشري
وأجاب صاحب الكشف بأنه: لما لم تكن الطهارة في نفسها قابلة للزيادة رجعت المبالغة فيها إلى انضمام معنى التطهير إليها لا أن اللازم صار متعديا، وتعقبه المولى الدواني بأن فيه تأملا من حيث إن انضمام معنى التطهير لما كان مستفادا من المبالغة بمعونة عدم قبول الزيادة كانت المبالغة في الجملة سببا للتعدي، ثم قال: ويمكن التفصي بأن المعنى اللازم باق بحاله، والمبالغة أوجبت انضمام المتعدي إليه لا تعدية ذلك اللازم وبينهما فرقان، وذكر بعض الأجلة أن إفادة المبالغة تعلق الفعل بالغير مما لا يساعده لغة ولا عرف، وأين هذا التعلق في قول جرير :
إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور
ومثله قوله تعالى: وسقاهم ربهم شرابا طهورا ومن هذا وأمثاله اختار بعضهم كون المبالغة راجعة إلى الكيفية على ما سمعت عن البحر، وقال بعض المحققين: إن ( طهورا ) هنا اسم لما يتطهر به كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: « » وفعول - كما قال التراب طهور المؤمن في كتاب الزاهر - يكون اسم آلة لما يفعل به الشيء كغسول ووضوء وفطور وسحور، إلى غير ذلك، كما يكون صفة بمعنى فاعل كأكول، أو مفعول كصبوب بمعنى مصبوب، واسم جنس كذنوب، ومصدرا - وهو نادر - كقبول، فيفيد التطهير للغير وضعا، ويمكن حمل ما روي عن الأزهري على هذا، واعتبار كونه طاهرا في نفسه لأن كونه مطهرا للغير فرع ذلك، وجعل - على هذا - بدلا من ماء أو عطف بيان له لا نعتا، فيكون التركيب نحو: أرسلت إليك ماء وضوءا. ثعلب
وأنت تعلم أن المتبادر - فيما نحن فيه - كونه نعتا، فإن أمكن ذلك على هذا الوجه بنوع تأويل كان أبعد عن [ ص: 31 ] القيل والقال، وحكى أن طهورا جاء مصدر التطهر في قولهم: تطهرت طهورا حسنا، وذكر أن منه قوله عليه الصلاة والسلام: « سيبويه » وحمل ما في الآية على ذلك مما لا ينبغي، وأيا ما كان ففي توصيف الماء به إعظام المنة كما لا يخفى. لا صلاة إلا بطهور