وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعا وقت الولادة أو شروع في عمل من الأعمال، أو وقت حلول الشمس نقطة الحمل - الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور - فهو محض ظن ورجم بالغيب، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام في ذلك مفصلا، ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث وليلي ونهاري وحار [ ص: 41 ] وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل، ولعلنا نذكر شيئا منه بعد إن شاء الله تعالى، ومن أراده مستوفى فليرجع إلى كتبهم.
ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لا دخل للاعتبار فيها، والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصلة من اعتبار فرض ست دوائر معلومة قاطعة للعالم، فيكون للاعتبار دخل فيها - وإن لم تكن في ذلك - كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها، فإن كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتبر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار، ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج، وفيه من الخير الكثير ما فيه، وقيل: إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي، والمشهور أن من اعتبر ذلك أولا هرمس وهو على ما قيل إدريس - عليه السلام - فتأمل.
وأخرج ، عن عبد بن حميد أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس، وقيل: هي القصور في الجنة، قال قتادة : وكان أصحاب الأعمش عبد الله يقرؤون: (في السماء قصورا)، وتعقب بأنه يأباه السياق؛ لأن الآية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لا يسجدون للرحمن - جل شأنه - وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله - جل جلاله - والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم، وتلك القصور ليست كذلك.
وأخرج ، ابن جرير ، عن وابن المنذر أنها النجوم، وروي ذلك عن مجاهد أيضا، وعن قتادة أبي صالح تقييدها بالكبار، وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لا سيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة.
وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم، فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروي عن الذي هو أظهر من الشمس ابن عباس وجعل فيها أي في السماء، وقيل: في البروج سراجا هي الشمس كقوله تعالى: وجعل الشمس سراجا وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، والأخوان «سرجا» بالجمع مضموم الراء، وقرأ والأعمش أيضا، الأعمش ، والنخعي كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو - على ما قيل - من قبيل وابن وثاب إن إبراهيم كان أمة لأن الشمس لعظمها وكمال إضاءتها كأنها سرج كثيرة، أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع، وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر:
لمعان برق أو شعاع شموس
وعلى هذا القول تتحد القراءتان، وقال بعض الأجلة: الجمع على ظاهره، والمراد به الشمس والكواكب الكبار، ومنهم من فسره بالكواكب الكبار، واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى: وقمرا منيرا بعد دخوله في السرج، والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها، ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية، ولذا يقدم الليل على النهار، وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها، فهم أكثر عناية به مع أنه - على ما ذكره - يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها، والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها في قرن - لا يجدي.
والقمر معروف، ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر، قيل: وسمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب، وفي الصحاح لبياضه، وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به، وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه بـ(منيرا) دون (مضيئا) إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد [ ص: 42 ] من غيره وهو الشمس، بل قال غير واحد: إن نور جميع الكواكب مستفاد منها، وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر.
وقرأ ، الحسن ، والأعمش ، وعصمة عن والنخعي «وقمرا» بضم القاف وسكون الميم، واستظهر عاصم أنها لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب، وقيل: هو جمع قمراء، وهي الليلة المنيرة بالقمر، والكلام على حذف مضاف، أي: وذا قمر، أي: صاحب ليال قمر، والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه، ويكون قوله سبحانه: ( منيرا ) صفة لذلك المضاف المحذوف؛ لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول أبو حيان رضي الله تعالى عنه: حسان
بردى يصفق بالرحيق السلسل
فإنه يريد ماء بردى، ولذا قال يصفق بالياء من تحت، ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء.