وقيل: يجوز أن يكون متعلقا بالقتل المحذوف، والاستثناء أيضا من أعم الأسباب، أي: لا يقتلون النفس التي حرم الله تعالى قتلها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ويكون الاستثناء مفرغا في الإثبات لاستقامة المعنى بإرادة العموم، أو لكون (حرم) نفيا معنى، ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا يزنون ولا يطؤون فرجا محرما عليهم، والمراد من نفي هذه القبائح العظيمة التعريض بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم، وإلا فلا حاجة إليه بعد وصفهم بالصفات السابقة من حسن المعاملة، وإحياء الليل بالصلاة، ومزيد خوفهم من الله تعالى لظهور استدعائها نفي ما ذكر عنهم، ومنه يعلم حل ما قيل: الظاهر عكس هذا الترتيب، وتقديم التخلية على التحلية، فكأنه قيل: والذين طهرهم الله تعالى وبرأهم سبحانه مما أنتم عليه من الإشراك وقتل النفس المحرمة - كالموؤدة - والزنا.
وقيل: إن التصريح بنفي الإشراك - مع ظهور إيمانهم – لهذا، أو لإظهار كمال الاعتناء والإخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه، وقد صح من رواية البخاري ومسلم ، عن والترمذي قال: ابن مسعود والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية. سألت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تعالى تصديق ذلك:
[ ص: 48 ] وأخرج الشيخان، ، وأبو داود ، عن والنسائي - رضي الله تعالى عنهما -: « ابن عباس محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية، ونزلت: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية». أن ناسا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا
وقد ذكر الإمام أن ذكر هذا بعد ما تقدم؛ لأن الموصوف بتلك الصفات قد يرتكب هذه الأمور تدينا، فبين سبحانه أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر وهو كما ترى، وجوز أن يقال في وجه تقديم التحلية على التخلية: كون الأوصاف المذكورة في التحلية أوفق بالعبودية التي جعلت عنوان الموضوع لظهور دلالتها على ترك الأنانية، ومزيد الانقياد، والخوف والاقتصاد في التصرف بما أذن المولى بالتصرف فيه، ولا يأبى هذا قصد التعريض بما ذكر في التخلية، ويؤيد هذا القصد التعقيب بقوله عز وجل: الرازي ومن يفعل ذلك يلق أثاما أي ومن يفعل ما ذكر يلق في الآخرة عقابا لا يقادر قدره، وتفسير الأثام بالعقاب مروي عن ، قتادة ، ونقله وابن زيد عن أهل اللغة، وأنشد قوله: أبو حيان
جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له جزاء
أخرج ، عن ابن الأنباري أنه فسره ابن عباس لنافع بن الأزرق بالجزاء، وأنشد قول عامر بن الطفيل :
وروينا الأسنة من صداه ولاقت حمير منا أثاما
والفرق يسير.
وقال أبو مسلم : الأثام الإثم، والكلام عليه على تقدير مضاف، أي: جزاء أثام، أو هو مجاز من ذكر السبب وإرادة المسبب، وقال : هو اسم من أسماء جهنم، وقيل: اسم بئر فيها، وقيل: اسم جبل. الحسن
وروى جماعة عن ، عبد الله بن عمر أنه واد في جهنم، وقال ومجاهد : فيه قيح ودم. مجاهد
وأخرج في (الزهد) عن ابن المبارك شفي الأصبحي أن فيه حيات وعقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم، والعقرب منهن مثل البغلة الموكفة، وعن : اسم لأودية في جهنم فيها الزناة. وقرئ: «يلق» بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة، وقرأ عكرمة ابن مسعود «يلقى» بألف كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرت الألف، وقرأ وأبو رجاء أبو مسعود أيضا «أياما» جمع يوم يعني شدائد، واستعمال الأيام بهذا المعنى شائع، ومنه: يوم ذو أيام، وأيام العرب لوقائعهم ومقاتلتهم.