إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر من القصة، وما فيه من معنى البعد لتعظيم شأن المشار إليه، وقيل: لبعد المسافة بالنظر إلى مبدأ القصة لآية أي لآية عظيمة توجب الإيمان بموسى - عليه السلام - وتصديقه بما جاء به، وأريد بها - على ما قيل - انقلاب العصا ثعبانا، وخروج يده - عليه [ ص: 90 ] السلام - بيضاء للناظرين، وانفلاق البحر، وأفردت لاتحاد المدلول.
وما كان أكثرهم مؤمنين أي: أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى - عليه السلام - أن يأتيهم، وهم القبط على ما استظهره ، حيث لم يؤمن منهم سوى مؤمن آل أبو حيان فرعون، وآسية امرأة فرعون، وبعض السحرة - على القول بأن بعضهم من القبط لا كلهم كما عليه أهل الكتاب وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام بعض منا - والعجوز التي دلت موسى على قبر يوسف - عليهما السلام - ليلة الخروج من مصر ليحمل عظامه معه.
وقيل: المراد بالآية ما كان في البحر من إنجاء موسى - عليه السلام - ومن معه وإغراق الآخرين، وضمير ( أكثرهم ) للناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من قومفرعون - الذين لم يخرجوا معه لعذر - ومن بني إسرائيل، والمراد بالإيمان المنفي عنهم التصديق اليقيني الجازم الذي لا يقبل الزوال أصلا، أي: وما كان أكثر الناس الموجودين بعد تحقق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدقين تصديقا يقينيا جازما لا يقبل الزوال، فإن الباقين في مصر من القبط لم يؤمن أحد منهم مطلقا، وأكثر بني إسرائيل كانوا غير متيقنين، ولذا سألوا بقرة يعبدونها، وعبدوا العجل، فلا يقال لهم مؤمنون بالمعنى المذكور، ويكفي في إيمان البعض الذي يدل عليه المفهوم كون البعض المؤمن من بني إسرائيل، وحيث كان المراد: وما كان أكثرهم بعد تحقق آيتي الإغراق والإنجاء وظهورهما مؤمنين - لا يصح جعل الضمير للقبط إلا ببيان الأقل المؤمن والأكثر الكافر منهم بعد تحقق الآيتين، وما ذكر في بيان الأقل المؤمن منهم ليس كذلك؛ إذ إيمان من ذكر كان في ابتداء الرسالة.
على أن العجوز من بني إسرائيل - كما جاء في حديث أخرجه ، الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم وصححه، عن والحاكم أبي موسى مرفوعا، بل أخرج ابن عبد الحكم من طريق ، عن الكلبي أبي صالح ، عن ، رضي الله تعالى عنهما - أنها ابن عباس شارح ابنة أشير بن يعقوب - عليه السلام - فهي بنت أخي يوسف - عليه السلام - فتكون أقرب من موسى - عليه السلام - إلى إسرائيل.
وأجيب بأن من يرجع الضمير على القبط لا يلزمه أن يفسر الآية بالإغراق والإنجاء، بل يقول: المراد بها المعجزات من العصا واليد وانفلاق البحر، ويقول: إن إيمان الأقل بعد تحقق بعضها كاف لاتحاد مدلولها في تحقق المفهوم، وأما إرجاع الضمير على الناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من بني إسرائيل وقوم فرعون الذين لم يخرجوا معه فخلاف الظاهر، وكذا حمل الإيمان على ما ذكر وجعل أكثر بني إسرائيل المخصوصين بالإنجاء غير مؤمنين وإن حصل منهم عند وقوع بعض الآيات ما لا ينبغي صدوره من المؤمنين؛ فإنهم لم يستمروا عليه.
فقد أخرج في (المتفق والمفترق) عن الخطيب : أبي الدرداء جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصفق بيديه ويعجب من بني إسرائيل وتعنتهم لما حضروا البحر وحضر عدوهم، جاؤوا موسى - عليه السلام - فقالوا: قد حضرنا العدو فماذا أمرت؟ قال: أن أنزل هاهنا، فإما أن يفتح لي ربي ويهزمهم وإما أن يفرق لي هذا البحر، فانطلق نفر منهم حتى وقعوا في البحر، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كما يتأطط العرش، ثم ضربه الثانية فمثل ذلك، ثم ضربه الثالثة فانصدع، فقالوا: هذا عن غير سلطان موسى ، فجازوا البحر فلم يسمع بقوم أعظم ذنبا ولا أسرع توبة منهم.
ومتى حمل الإيمان على ما ذكر وصح نفي الإيمان عمن صدر منه ما يدل على عدم رسوخه جاز إرجاع الضمير [ ص: 91 ] على بني إسرائيل خاصة، فإن أكثرهم لم يكونوا راسخين فيه، وظاهر عبارة بعضهم يوهم إرجاعه إليهم وليس ذاك بشيء.
وقد سلك شيخ الإسلام في تفسير الآية مسلكا تفرد في سلوكه فيما أظن فقال: إن في ذلك، أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى - عليه السلام - وظهر على يديه من المعجزات القاهرة، ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال، وما فعل بهم من العذاب والنكال لآية أي آية، آية وآية عظيمة لا تكاد توصف، موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون، ويقيسوا شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشأن موسى - عليه السلام - وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين، ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول، ويؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيلا يحل بهم ما حل بأولئك.
أو: إن فيما فصل في القصة من حيث حكايته - عليه السلام - إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق، موجبة للإيمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان أكثرهم، أي: أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه - عليه الصلاة والسلام - مؤمنين لا بأن يقيسوا شأنه - صلى الله عليه وسلم - بشأن موسى - عليه السلام - وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين، ولا بأن يتدبروا في حكايته - عليه الصلاة والسلام - لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان قطعا، ومعنى ( ما كان أكثرهم مؤمنين ) ما أكثرهم مؤمنين، على أن كان زائدة - كما هو رأي - فيكون كقوله تعالى: سيبويه وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وهو إخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد سماع الآيات الناطقة بالقصة تقريرا لما مر من قوله تعالى: وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا إلخ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الإيمان واستمرارهم عليه.
ويجوز أن تجعل ( كان ) بمعنى صار، كما في قوله تعالى: وكان من الكافرين فالمعنى: وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان بما ذكر من الطريقين، فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه .
وادعى أن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع، بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا، ثم قال: وأما ما قيل من أن ضمير ( أكثرهم ) لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم، وأن المعنى: وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين؛ حيث لم يؤمن منهم إلا آسية، ومؤمن آل فرعون، والعجوز التي دلت على قبر يوسف - عليه السلام - وبنو إسرائيل بعدما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة - فبمعزل عن التحقيق، كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم - عليه السلام - إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله، كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعدما شاهدوا ما بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان، ويزجرهم عن الكفر والعصيان، وأصروا على ما هم عليه من التكذيب، فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية، وقطع دابرهم بالكلية، فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم، لا سيما بعد الإخبار بهلاكهم؟!
وعد المؤمنين من جملتهم أولا، وإخراجهم منها آخرا - مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكي عنهم من الجنايات أصلا - مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله.
ورجوع ضمير ( أكثرهم ) في قصة إبراهيم [ ص: 92 ] - عليه السلام - إلى قومه مما لا سبيل إليه أيضا أصلا؛ لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغيانا وكفرا حتى اجترءوا على تلك العظيمة التي فعلوها به، فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم، وإنما آمن له لوط فنجاهما الله تعالى إلى الشام ؟! فتدبر، اهـ.
وتعقب بأن فيها محذورا من عدة أوجه:
أما أولا فلأن حمل كان على الصلة - مع ظهور الوجه الصحيح - غير صحيح، وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على أنهم لا يكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين، وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعا، لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق، وهذا أيضا - مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك - غير مناسب.
وأما ثانيا فلأن إرجاع ضمير ( أكثرهم ) إلى قوم نبينا - صلى الله عليه وسلم - صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظا، سيما في القصص الآتية المصدرة بـ(كذبت).
وأما ثالثا فلأن قوله: لا بأن يقيسوا شأنه - عليه الصلاة والسلام - بشأن موسى - عليه السلام - إلخ، لا يخلو عن صعوبة؛ إذ الأمر المشترك بينهما - عليهما الصلاة والسلام - ليس إلا أن كلا منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقا، وأما إن نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما، وكذا قياس حالهم على حال فرعون وقومه لا يخلو عنها على هذا القياس.
وأما رابعا فلأن قوله تعالى: ( إن في ذلك لآية ) إلخ، قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع، ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن. ومن جملة ذلك ما في قصة نبي الله تعالى لوط - عليه السلام - وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود، ثم إهلاك جميعهم، وما في قصة نبي الله تعالى شعيب - عليه السلام - وقد ذكر فيها من حال أصحاب الأيكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن، ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما أن يقال: إن في ذلك لآية موجبة لإيمان قريش، بأن يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين، ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي، هذا على الطريق الأول، وأما الطريق الثاني ففيه أيضا عدة محذورات.
أما أولا وثانيا فلما ذكر أولا وثانيا، وأما ثالثا فلأن كلا من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الإجمال وذكر مفصلا في سورة أخرى، وكل منهما ذكر محدث بحسب نزوله، فلا وجاهة في أن يقال: وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناء على أنهم قد سمعوها منه - عليه الصلاة والسلام - مفصلة قبل نزول هذه الآية، مع أن كون حكايته - صلى الله تعالى عليه وسلم - ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى إيمانهم قطعا - محل تردد.
وأما رابعا فلأن آخر هذه القصة قوله تعالى: ( وأنجينا ) ، ( ثم أغرقنا ) وكذا آخر قصة لوط - عليه السلام - قوله تعالى: ( فنجيناه ) ، ( ثم دمرنا ) ، ( وأمطرنا ) فالمتبادر أن تكون الإشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الأفعال العجيبة الإلهية لا إلى حكايتها.
وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضا؛ لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر، كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح - عليه السلام - حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه: كذبت قوم نوح المرسلين : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون وقوله - عز وجل - بعد ذلك حكاية عن نوح - عليه السلام - ما قال في جوابهم: وما أنا بطارد المؤمنين فيكون ضمير ( أكثرهم ) راجعا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك.
ومثله كثير في الكلام، ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة، سواء كان البعض المؤمن واحدا أو أكثر، فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم - عليه السلام - بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن [ ص: 93 ] له لوط - عليه السلام – فتأمل، انتهى، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين.
وأنا أختار - كما اختار شيخ الإسلام - رجوع الضمير إلى قوم نبينا - عليه الصلاة والسلام - وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم، وتسليته - صلى الله عليه وسلم - عما قالوه في شأن كتابه الأكرم، ونهيه صريحا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات، وكل ذلك يقتضي اقتضاء - لا ريب فيه - رجوع الضمير إلى قومه - عليه الصلاة والسلام - ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظا، ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى.
وأختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شؤونه - عز وجل - وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك، وكذا يقال في جميع ما يأتي - إن شاء الله تعالى - وكل ذلك على نمط ما تقدم، وكذا الكلام في كان وما يتعلق بالجملة.