ليس عليك هداهم أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الائتمار والانتهاء إن أنت إلا بشير ونذير ما عليه إلا البلاغ المبين ولكن الله يهدي بهدايته الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا من يشاء هدايته منهم، والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن وأبو علي الجبائي، وهو مبني على رجوع ضمير هداهم إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار، فقد أخرج وغيره عن ابن أبي حاتم رضي الله تعالى عنهما ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية» وأخرج عنه قال: كان أناس من ابن جرير الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت. وأخرج عن ابن أبي شيبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سعيد بن جبير ليس عليك هداهم أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط، والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر، والارتباط على التقديرين ظاهر، وجعلها مرتبطة بقوله سبحانه: " لا تصدقوا إلا على أهل دينكم " فأنزل الله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها ليس بشيء.
وما تنفقوا في وجوه البر من خير أي مال فلأنفسكم أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم فلا تيمموا الخبيث ولا تبطلوه بالمن والأذى ورئاء الناس، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به ديني ونفع الكافر منهم دنيوي، و (ما) شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية و(من) تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له .
وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله [ ص: 46 ] استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب، أو في حال من الأحوال إلا في هذه الحال، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على معنى: وما تنفقوا من خير فإنما يكون لكم لا عليكم إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه الله تعالى، أو إلا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مرائين ولا متيممين الخبيث، أو على معنى: ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وقيل: إنه نفي بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا، وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجل من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا، وأيضا قول القائل: فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره، ومتى قال: فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا على الرضا وجعل الآية على حد ابتغاء مرضات الله تعالى، والسلف بعد أن نزهوا فوضوا كعادتهم في المتشابه.
وما تنفقوا من خير يوف إليكم أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل، وهو المروي عن رضي الله تعالى عنهما، والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر، فكأنه قيل: كيف يمن أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه، أو كيف يفعل ذلك فيما له عوض وزيادة، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل، وقيل: إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها (إليكم) لتضمنها معنى التأدية، وإسنادها إلى (ما) مجازي وحقيقته ما سمعت. " اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا "
والآية -بناء على سبب النزول- دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف، والإمام رضي الله تعالى عنه يجوزه، وظاهر قوله تعالى: أبو حنيفة ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا. وأنتم لا تظلمون [ 272 ] أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم، والجملة حال من ضمير إليكم والعامل (يوف).