وقوله سبحانه: إذ نسويكم برب العالمين ظرف لكونهم في ضلال مبين، وقيل: لمحذوف دل عليه الكلام، أي ضللنا، وقيل: للضلال المذكور، وإن كان فيه ضعف صناعي من حيث إن المصدر الموصوف لا يعمل بعد الوصف، ويهون أمر ذلك كون المعمول ظرفا، وقيل: ظرف لـ(مبين) وجوز أن تكون (إذ) تعليلية كما قيل به في قوله تعالى: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية، أي: تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم، أو لأنا سويناكم - أيها الأصنام - في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم.
وما أضلنا إلا المجرمون الظاهر - بناء على ما تقدم من أن الاختصام مع الأصنام والشياطين - أن يكون المراد بالمجرمين الشياطين؛ ليكون ذلك من الاختصام معهم - وإن لم يورد على وجه الخطاب - كما أن ما تقدم من الاختصام مع الأصنام، وكون [ ص: 104 ] المراد بهم ذلك مروي عن ، وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم، والمراد بالمجرمين رؤساؤهم وكبراؤهم، وفي قوله تعالى: مقاتل ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا .
وعن : هم الأولون الذين اقتدوا بهم، وقيل: من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. السدي
وعن : أنهم إبليس وابن ابن جريج آدم القاتل؛ لأنه أول من سن القتل والمعاصي، والقصر قيل بالنسبة إلى الأصنام، ولعلهم أرادوا بنفي الإضلال عنها إهانتها بأنها لا قدرة لها، وفيه تأكيد لكونهم في ضلال مبين، ولعل الأولى كونه قصرا حقيقيا بادعاء أنهم الأوحديون في سببية الإضلال حتى إن سببية غيرهم له كلا سببية، وهذا واضح في الشياطين لأن إضلال غيرهم من الكبراء ونحوهم بواسطة إضلالهم؛ لأنهم الذين يزينون الباطل للمتبوع والتابع، ويمكن أن يعتبر في غيرهم بضرب من التأويل وذلك إذا أريد بالمجرمين غيرهم، ثم إن المشركين لا يزالون في حيرة يوم القيامة لا يدرون بم يتشبثون فلا يضر إسنادهم الإضلال تارة إلى شيء وأخرى إلى غيره، على أن الإسناد إلى كل باعتبار هذا.
وجوز أن يكون الاختصام بين العبدة بعضهم مع بعض، والخطاب في نسويكم للأصنام من غير التزام القول بجعلهم أهلا له، بل هو كخطاب المضطر للحجر والشجر، وفيه مبالغة في التحسر والندامة، والمعنى أن العبدة مع تخاصم بعضهم مع بعض بأن يقول أحدهم للآخر: أنت مبدأ ضلالي ولولا أنت لكنت مؤمنا، اعترفوا بجرمهم وتعجبوا وبينوا سببه، وجوز أيضا أن يكون من الأصنام، ينطقهم الله تعالى فيخاصمون العبدة، فضمير ( هم ) عائد عليهم، والمعنى: قال العبدة معترفين بضلالهم متعجبين منه مبينين سببه: إن كنا إلخ، والحال أن الأصنام يخاصمونهم قائلين: نحن جمادات متبرئون عن جميع المعاصي، وأنتم اتخذتمونا آلهة فألقيتمونا في هذه الورطة. وهذا كله على تقدير كون جملة ( قالوا ) مستأنفة كما هو الظاهر، وجوز أن يكون ( جنود إبليس ) مبتدأ وجملة ( قالوا ) إلخ خبره، وضمير ( قالوا ) وكذا ما بعده عائد عليه.
وأنت تعلم أنه مع كونه خلاف الظاهر لا يتسنى على تقدير أن يراد بجنود إبليس الشياطين؛ لما أن المقول المذكور لا يصح أن يكون منهم، وإذا أريد بهم متبعوه من عصاة الثقلين عبدة الأصنام وغيرهم يرد أن المقول المذكور قول فرقة منهم وهي العبدة، فإسناده إلى الجميع خلاف الظاهر ويبعد كل البعد، بل لو قيل بفساده لم يبعد احتمال كون كل شخص - سواء كان من عبدة الأصنام أو غيره - يخاصم مع كل من يصادفه من غير صلاحية الآخر للاختصام، ويقول ما ذكر للأصنام لغاية الحيرة والضجرة.
نعم، لو أريد بجنود إبليس - على تقدير كونه مبتدأ ورجوع الضمائر إليه - الغاوون بعينهم، وتكون الإضافة للعهد - والتعبير عنهم بهذا العنوان بعد التعبير عنهم بالعنوان السابق لتذليلهم - لم يبعد جدا.
ومن الناس من جوز الابتدائية والخبرية المذكورتين، وفسر الجنود بالعصاة مطلقا، وجعل ضمير ( قالوا ) لـ(الغاوون) وضمير (هم) و(يختصمون) للجنود أو للأصنام، وفيه - مع خروج الآية عليه عن حسن الانتظام - ما لا يخفى على ذوي الأفهام.