و (أم) في قوله تعالى: أمن خلق السماوات والأرض منقطعة لا متصلة كالسابقة، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا- أن تشركون- المقدر هاهنا بتاء الخطاب على القراءتين معا، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما وأنزل لكم التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأولى لتشديد التبكيت والإلزام، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم من السماء ماء أي نوعا منه وهو المطر فأنبتنا به بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلا، وقيل: أي أنبتنا عنده حدائق جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا، وهو ظاهر إطلاق تفسير حيث فسر الحدائق ابن عباس لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد، وقال هي البستان عليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة، وهو مروي عن الزمخشري: وقال الضحاك، الراغب:
هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، ولعل الأظهر ما في البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الأحداق وتنظر إليها ذات بهجة أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ما كان لكم أي ما صح وما أمكن لكم أن تنبتوا شجرها فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره وتبعه غيره. الزمخشري
وقال يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى، وقال ابن عطية: أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له: ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، والتقدير أم من خلق السماوات والأرض كمن لم يخلق، وكذلك يقدر في أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق انتهى، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد.
وقرأ «أمن» بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع ما لها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل ورشح ذلك بقوله تعالى: الأعمش ما كان لكم إلخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا [ ص: 5 ] أو استئنافا، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، وهذا شائع في جمع التكسير كقوله تعالى: (أزواج مطهرة) وكذا الحال في ضمير "شجرها".
وقرأ «ذوات» بالجمع «بهجة» بفتح الهاء ابن أبي عبلة أإله مع الله أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز وجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدا ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز وجل، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية، وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر في الخلق، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله بل بإشراكهم به تعالى ما يعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل: أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة، وقيل: المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين. فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى: وما كان معه من إله والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط.
وقرأ هشام عن «آاله» بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين، وقرأ ابن عامر أبو عمرو ونافع «أإلها» بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون أو أتدعون أو أتشركون. وابن كثير
بل هم قوم يعدلون إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم و يعدلون من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك، وقيل: من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم، وروي ذلك عن والأول أنسب بما قبله، وقيل: الكلام عليه خال عن الفائدة. ابن زيد،