[ ص: 26 ] ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها، ويوم منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم أي اذكر يوم، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارا، والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى: ويوم ينفخ في الصور إلى آخره، ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسب بذكر أن الكفرة لا يوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عز وجل والتعذيب على ذلك التكذيب، و(من) الثانية بيانية جيء بها لبيان فوجا ، ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا فهم يوزعون أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى، وقيل: (من) الثانية تبعيضية كالأولى، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة، وعن ابن عباس أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة.
قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال: إن دخول (من) في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته.
ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله تعالى ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه السلام، وصح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قوله: «سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه».
وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك [ ص: 27 ] ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول عليه في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى.
وأقول: أول من قال بالرجعة عبد الله بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرم الله تعالى وجهه أيضا لكن لم يوقتها بوقت، ولما أتى القرن الثالث قرر أهله من الإمامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي، واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت، والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكارا شديدا، وقد ردوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضا تعارض روايات الإمامية، والآيات المذكورة هنا لا تدل على الرجعة حسبما يزعمون ولا أظن أن أحدا منهم يزعم دلالتها على ذلك، بل قصارى ما يقول: إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها، وفي كلام الطبرسي ما يشير إلى هذا.
وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لإفادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عز وجل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة، وربما يقال أيضا:- مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة- أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية، وأيضا كيف تصح إرادة الرجعة منها، وفي الآيات ما يأبى ذلك، منه قوله تعالى: قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقا وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز وجل مما لا ينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها، على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها، وإنما الدليل إجماع الإمامية والتعويل ليس إلا عليه، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسني هذا الجزم من إجماعهم هذا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلى الله تعالى عليه وسلم، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السني مثله في إجماعهم، وما ذكر من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سيكون في أمتي» الحديث لا نعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فإنه كان في بني إسرائيل ما لم يذكر أحد أنه يكون مثله في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم الله تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة حين قالوا لموسى عليه السلام: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك.
[ ص: 28 ] وبالجملة القول بالرجعة حسبما تزعم الإمامية مما لا ينتهض عليه دليل، وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل، وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي الله تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علما بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات