إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها استئناف بتقدير قل قبله وهو أمر له عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهؤلاء الكفرة ذلك بعد ما بين لهم أحوال المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إثارة لهممهم بألطف وجه إلى أن يشتغلوا بتدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم والتوجه نحو التدبر فيما قرع أسماعهم من الآيات الباهرة الكافية في إرشادهم والشافية لعللهم. والبلدة على ما روي عن ابن عباس وغيرهما هي وقتادة مكة المعظمة، وفي تاريخ مكة أنها منى قال: حدثنا يحيى بن ميسرة عن خلاد بن يحيى عن أنه قال: البلدة سفيان منى والعرب تسميها بلدة إلى الآن.
وأخرج عن ابن أبي حاتم تفسيرها بذلك أيضا، وذكر بعض الأجلة أن أكثر المفسرين على [ ص: 39 ] الأول وتخصيصها بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها والتعرض لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى: أبي العالية فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ألا ترى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها قد استمروا فيها على تعاطي أفظع أفراد الفجور وأشنع آحاد الإلحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، ولا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل وما في قوله عليه الصلاة والسلام إبراهيم عليه السلام حرم مكة وأنا حرمت المدينة» من نسبة تحريمها إلى «إن إبراهيم عليه السلام لأن ما هنا باعتبار أنه هو المحرم في الحقيقة وما في الحديث باعتبار أن إبراهيم عليه السلام مظهر لحكمه عز شأنه.
وقرأ ابن عباس (التي) صفة للبلدة وقراءة الجمهور أبلغ في التعظيم، ففي الكشف أن إجراء الوصف على الرب تعالى شأنه، تعظيم لشأن الوصف ولشأن ما يتعلق به الوصف وزيادة اختصاص له بمن أجري عليه الوصف على سبيل الإدماج وجعل ذلك كالمسلم المبرهن ولا كذلك لو وصفت البلدة بوصف تخصيصا أو مدحا. وقوله تعالى: وابن مسعود وله كل شيء أي خلقا وملكا وتصرفا، من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق، وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات، واستدل به بعض الناس لجواز ما يقوله جهلة المتصوفة شيء لله، لأنه في معنى "كل شيء لله عز وجل"، نحو "تمرة خير من جرادة"، وأنت تعلم أنهم لا يأتون به لإرادة ذلك بل يقولون: شيء لله يا فلان لبعض الأكابر من أهل القبور، إما على معنى أعطني شيئا لوجه الله تعالى يا فلان، أو أنت شيء عظيم من آثار قدرة الله تعالى وقد وجهه بذلك من لم يكفرهم به وهو الحق وإن كان في ظاهره على أول التوجيهين طلب شيء ممن لا قدرة له على شيء نعم الأولى صيانة اللسان عن أمثال هذه الكلمات.
وأمرت أن أكون من المسلمين أي أثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو الذين أسلموا وجوههم لله تعالى خالصة من قوله تعالى: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله