فسقى لهما أنه عليه السلام [ ص: 62 ] سارع إلى السقي لهما رحمة عليهما ومنشأ الترحم كونهما على الذود وكون الأمة من الناس على السقي ولهذا ذهب الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف إلى أن حذف المفعول في يسقون وتذودان للقصد إلى نفس الفعل وتنزيله منزلة اللازم أي يصدر منهم السقي ومنهما الذود وقال: إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما خارج عن المقصود بل يوهم خلافه إذ لو قيل: أو قدر يسقون إبلهم وتذودان غنمهما لتوهم أن الترحم عليهما ليس من جهة أنهما على الذود والناس على السقي بل من جهة أن مذودهما غنم ومسقيهم إبل بناء على أن محط الفائدة في الكلام البليغ هو القيد الأخير وخالفهما في ذلك السكاكي فذهب إلى أن حذف المفعول من يسقون وتذودان لمجرد الاختصار والمراد يسقون مواشيهم وتذودان غنمهما وكذا سائر الأفعال المذكورة في هذه الآية، واختاره العلامة الثاني فقال: إن هذا أقرب إلى التحقيق لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما وصدور السقي من الناس بل من جهة ذودهما غنمهما وسقي الناس مواشيهم حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما بل مواشيهم وكان الناس يسقون غير مواشيهم بل غنمهما مثلا لم يصح الترحم ووافقه في ذلك السيد السند وقال في تحقيق المذهبين: إن الشيخين اعتبرا المفعول الذي نزل الفعلان بالنسبة إليه هو الإبل والغنم مثلا أي النوعين من المواشي بدون الإضافة كما يدل عليه قولهما إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما إلخ وكل منهما مقابل للآخر في نفسه وجعلا ما يضاف إليه كل في القول أو التقدير المفروض خارجا عن المفعول من حيث إنه مفعول غير ملحوظ معه فالمفعول عندهما ليس إلا مطلق الإبل والغنم فلو قدر المفعول لأدى إلى فساد المعنى فإنهما لو كانتا تذودان إبلا لهما على سبيل الفرض لكان الترحم باقيا بحاله لأنه إنما كان لعدم قدرتهما على السقي، والسكاكي نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضافة إليهما والمواشي المضافة إليهم وكل واحد منهما يقابل الآخر من حيث إنه مضاف فلو لم يقدر المفعول يفسد المعنى وهذا أدق نظرا وأصح معنى انتهى، وتعقبه المولى عبد الحكيم السالكوني بقوله: وفيه بحث لأن عدم التقدير إن قصد به التعميم أي يسقون مواشيهم وغير مواشيهم وتذودان غنمهما وغير غنمهما يلزم الفساد أما إذا قصد به مجرد السقي والذود من غير ملاحظة التعلق بالمفعول كما في قوله تعالى: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فلا لأن كون طبيعة السقي والذود منشأ الترحم لا يقتضي أن يكون عند تعلقه بمفعول مخصوص كذلك حتى يلزم أن يكون سقي غير مواشيهم وذود غير غنمهم محلا للترحم فتدبر، فإن منشأ ما ذكره السكاكي عدم الفرق بين الإطلاق والعموم انتهى، ولا يخفى أنه ينبغي أن يضم إلى طبيعة السقي والذود بعض الحيثيات كحيثية تحقق طبيعة السقي من أقوياء متغلبين. وتحقق طبيعة الذود من امرأتين ضعيفتين مستورتين في موضع هو مجتمع الناس للسقي وإلا فالظاهر أن مجرد طبيعة السقي والذود لا تصلح منشأ الترحم.
وقال بعض الأجلة: ترك المفعول في يسقون ويذودان لأن الغرض هو الفعل لا المفعول إذ هو يكفي في البعث على سؤال موسى عليه السلام وما زاد على المقصود لكنة وفضول، وأما البعث على المرحمة فليس هذا موضعه فإن له قولهما: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ومن لم يفرق بين البعثين قال ما قال ورد بأن منشأ السؤال هو المرحمة لحالهما كما صرحوا به فسؤاله عليه السلام للتوسل إلى إعانتهما وبرهما لتفرس ضعفهما وعجزهما ولولاه لم يكن للتكلم مع الأجنبية داع، وقولهما: لا نسقي إلخ باعث لمزيد المرحمة لقبولها للزيادة والنقص، وتعقب بأنه إنما يتم لو سلم أنه عليه السلام تفرس ضعفهما وعجزهما لأمور شاهدها، [ ص: 63 ] وإلا فالذود لا يدل على ذلك إذ يتحقق للضعف ولغيره، وقد نقل الخفاجي كلام جمع من الفضلاء في هذا المقام منه ما ذكرنا عن بعض الأجلة ورده واعترض بما اعترض، ثم قال: وأما ما اعترض به على المرحمة فخيال فاسد ومحط كلامه عليه الرحمة الانتصار لما ذهب إليه الشيخان وقد انتصر لهما، وقال بقولهما غير واحد.
واعترض بعضهم على تقدير المفعول مضافا بأن الإضافة تشعر بالملك ولا ملك لأحد من الأمة والامرأتين فإن الظاهر في الأمة أنهم كانوا رعاء والأغلب أن الرعاء لا يملكون، والظاهر أن ما في يد الامرأتين كان ملكا لأبيهما، ولا يخفى أن هذا الاعتراض على طرف الثمام، والله تعالى أعلم، هذا والظاهر أنه عليه السلام سقى لهما من البئر التي عليها الناس ويدل عليه ما روي أنه عليه السلام دفعهم عن الماء إلى أن سقى لهما وكذا ما أخرجه في المصنف ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه عن والحاكم رضي الله تعالى عنه قال: إن عمر بن الخطاب موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليها أمة من الناس يسقون فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين قال ما خطبكما فحدثناه فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى فلم يستسق إلا دلوا واحدا حتى رويت الغنم لكن هذا مخالف لما يقتضيه ظاهر الآية من أنه عليه السلام حين ورد ماء مدين وجد الأمة يسقون ووجد الامرأتين تذودان وهذا ظاهر في مقارنة وجدانهما لوجدانهم وذودهما لسقيهم ولا يكاد يفهم منه أن وجدانهما بعد فراغهم من السقي كما يقتضيه الخبر فلعل الخبر غير صحيح، وتصحيح محكوم عليه بعدم الاعتبار وكأن من يقول بصحته يمنع اقتضاء الآية كون وجدان الأمة يسقون ووجدان الامرأتين تذودان في أول وقت الورود فإنه يقال: لما ورد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحاكم المدينة وجب الصيام ووجبت الزكاة مثلا مع أن وجوب كل ليس في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه السلام قد وجد أمة يسقون أول وقت وروده وبعد أن فرغوا من السقي ووضعوا الصخرة على البئر وجد امرأتين تذودان فخاطبهما بما خطبكما فكان ما كان ويحمل ذودهما على منع غنمهما عن التقدم إلى البئر لعلمهما أنها قد أطبق عليها صخرة لا يقدرون على رفعها ويتكلف في توجيه الجواب ما يتكلف أو يقول الآية على ظاهرها ويسلم اقتضاءه اتحاد الوجدانين والذود والسقي بالزمان ويمنع أن يكون في الخبر ما ينافي ذلك لجواز أن يكون المعنى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان فلما فرغوا أعادوا الصخرة فإذا بالامرأتين حاضرتان عنده بين يديه فسألهما فحدثناه إلخ فما بعد الفراغ من السقي ليس وجدان الامرأتين تذودان وإنما هو حضورهما بين يديه والكل كما ترى وكأني بك تعتمد عدم صحة الخبر.
وقيل: إنه عليه السلام سقى لهما من بئر أخرى،
فقد أخرج عبد بن حميد عن وابن المنذر رضي الله تعالى عنهما في خبر طويل أنه عليه السلام لما سأل الامرأتين وأجابتا قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر. قال: فانطلقا فأريانيها. فانطلقا معه فقال بالصخرة بيده فنحاها ثم استقى لهما سجلا واحدا فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها ابن عباس
ثم تولى إلى الظل الذي كان هناك وهو على ما روي عن ظل شجرة قيل: كانت سمرة، وقيل: هو ظل جدار لا سقف له. ابن مسعود
وقيل: إنه عليه السلام جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس، وهو المراد بقوله تعالى: ثم تولى إلى الظل [ ص: 64 ] وهو كما ترى فقال رب إني لما أنزلت إلي أي لأي شيء تنزله من خزائن كرمك إلي.
من خير جل أو قل فقير أي محتاج وهو خبر إن وبه يتعلق لما، ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عدي باللام، وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية، وقيل: يجوز أن تكون للبيان فتتعلق بأعني محذوفا، و (ما على جميع الأوجه نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها، والرابط محذوف، ومن خير بيان لها، والتنوين فيه للشيوع، والكلام تعريض لما يطعمه لما ناله من شدة الجوع والتعبير بالماضي بدل المضارع في أنزلت للاستعطاف كالافتتاح برب، وتأكيد الجملة للاعتناء، ويدل على كون الكلام تعريضا لذلك ما أخرجه عن ابن مردويه رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنس بن مالك لما سقى موسى عليه السلام للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر».
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في المختارة عن والضياء قال: «لقد قال ابن عباس موسى عليه السلام: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع».
وفي رواية أخرى عنه «أنه عليه السلام سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع وكان عليه السلام قد ورد ماء مدين» وأنه كما روى في الزهد وغيره عن الحبر ليتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال وإلى كون الكلام تعريضا لذلك ذهب أحمد مجاهد وأكثر المفسرين وكان وابن جبير، كرم الله تعالى وجهه يقول: والله ما سأل إلا خبزا يأكله، وجوز أن تكون اللام للتعليل وما موصولة، ومن للبيان والتنكير في خير لإفادة النوع والتعظيم، وصلة فقير مقدرة أي إني فقير إلى الطعام أو من الدنيا لأجل الذي أنزلته إلي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين فقد كان عليه السلام عند علي فرعون في ملك وثروة وليس الغرض عليه التعريض لما يطعمه ولا التشكي والتضجر بل إظهار التبجح والشكر على ذلك، ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر.
وأنت تعلم أن هذا خلاف المأثور الذي عليه الجمهور، ومثله في ذلك ما روي عن أنه عليه السلام سأل الزيادة في العلم والحكمة ولا يخلو أيضا عن بعد. وجاء عن الحسن أن الامرأتين سمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه فقال لإحداهما: انطلقي فادعيه
ابن عباس