ألا إن خير الناس (حيا) وهالكا أسير ثقيف عندهم في السلاسل
في أن العناية هي سبب التقديم وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق أن يكون خبرا اسما وأراد بذلك على ما قيل: أحقية كون خير خبرا من حيث الصناعة، ووجه بأن خيرا مضاف إلى من وهي نكرة فكذا هو والإخبار عن النكرة بالمعرفة خلاف الظاهر، وإن جوزوه في اسمي التفضيل والاستفهام، ولو جعلت موصولة فإضافة أفعل التفضيل لفظية لا تفيد تعريفا كما هو أحد قولين للنحاة فيها، وعلى القول بإفادتها التعريف يقال: المعرف باللام أعرف من الموصول وما أضيف إليه. وتعقب بأن تعريف القوي الأمين للجنس وما فيه تعريف الجنس قد ينزل منزلة النكرة، وأجيب بأن الموصول إذا أريد به الجنس كذلك وهنا تصح هذه الإرادة ليجيء التعدد الذي يقتضيه (خير)، وحيث كان المضاف إلى شيء دونه يكون القوي الأمين أحق بالاسمية وخير أحق بالخبرية. وإذ قلت بأن أحقية الخبرية لأن سوق التعليل يقتضيها إلا أنه عدل إلى الاسمية للاهتمام خلصت من كثير من المناقشات. وقال لي الشيخ خليل أفندي الآمدي يوم اجتمعت به وأنا شاب عند وروده إلى بغداد فجرى بحث في هذه الآية الكريمة: إن القياس المأخوذ منها من الشكل الثاني هكذا موسى القوي الأمين وخير من استأجرت القوي الأمين ينتج موسى خير من استأجرت. فقلت: أظهر ما يرد على هذا أن شرط إنتاج الشكل الثاني بحسب الكيفية اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة وهو منتف فيما ذكرت فسكت وأعرض عن البحث حذرا من الفضيحة.
وأنت تعلم أن أدلة القرآن لا يلزم فيها الترتيب الذي وضعه المنطقيون فذلك صناعة أغنى الله تعالى العرب عنها، وما ذكر من أن جعل (خير) اسما للاهتمام هو ما اختاره غير واحد، وجوز الطيبي أن يكون تقديمه وجعله اسما من باب القلب للمبالغة، والظاهر أن أل في القوي الأمين للجنس فيندرج موسى عليه السلام وهو وجه الاستدلال. وذكر الاستئجار بلفظ الماضي مع أن الظاهر ذكره بلفظ المضارع للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وجوز الطيبي أن يكون المراد بالقوي الأمين موسى عليه السلام فكأنها قالت: إن خير من استأجرت موسى، والأول أولى. ثم إن كلامها هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول: استأجره لقوته وأمانته، ولعمري إن مثل هذا المدح من المرأة للرجل أجمل من المدح الخاص وأبقى للحشمة وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها أن يزوجها منه، ومعرفتها قوته عليه السلام لما رأت من دفعه الناس عن الماء وحده حتى سقى لهما، ومعرفتها أمانته من عدم تعرضه لها بقبيح ما مع وحدتها وضعفها.
وروي أنها لما قالت ما قالت قال لها أبوها: ما أعلمك بقوته؟
[ ص: 67 ] فذكرت له أنه عليه السلام أقل صخرة على البئر لا يقلها كذا وكذا وقد مر في حديث رضي الله تعالى عنه أنه لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال والنقل في عدد من يقلها مضطرب فأقل ما قالوا فيه سبعة وأكثره مائة، وقد مر ما يعلم منه حال الخبر في أصل الإقلال، وذكرت أنه نزع وحده بدلو لا ينزع بها إلا أربعون. وقال: ما أعلمك بأمانته؟ فذكرت ما كان من أمره إياها بالمشي وراءه وأنه صوب رأسه حتى بلغته الرسالة، وقدمت وصف القوة مع أن أمانة الأجير لحفظ المال أهم في نظر المستأجر لتقدم علمها بقوته عليه السلام على علمها بأمانته أو ليكون ذكر وصف الأمانة بعده من باب الترقي من المهم إلى الأهم، واستدل بقولها استأجره على مشروعية الإجارة عندهم وكذا كانت في كل ملة وهي من ضروريات الناس ومصلحة الخلطة خلافا لابن علية والأصم حيث كانا لا يجيزانها وهذا ما انعقد عليه الإجماع وخلافهما خرق له فلا يلتفت إليه وهذا لعمري غريب منهما إن كانا لا يجيزان الإجارة مطلقا، ورأيت في الإكليل أن في قوله تعالى: عمر أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني إلخ ردا على من منع الإجارة المتعلقة بالحيوان عشر سنين لأنه يتغير غالبا فلعل الإجارة التي لا يجيزانها نحو هذه الإجارة والأمر في ذلك أهون من عدم إجارة الإجارة مطلقا كما لا يخفى.