ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة وهو على ما قال أول كتاب فصلت فيه الأحكام أبو حيان من بعد ما أهلكنا القرون الأولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار، ومن غفل عن هذا قال:
الأولى أن تفسر القرون الأولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه السلام، وقيل:
المراد بها ما يعم من لم يؤمن بموسى من فرعون وجنوده والأمم المهلكة من قبل، وليس بذاك، وما مصدرية أي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الأولى بصائر للناس أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والأول يجمع على بصائر، والمراد بالناس قيل (أمته) عليه السلام، وقيل ما يعمهم ومن بعدهم، وكون التوراة بصائر لمن بعث إليه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لتضمنها ما يرشدهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة والسلام، أو يزيدهم علما إلى علمهم. وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها،
وقد صح رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علما إلى علمه فغضب صلى الله تعالى عليه وسلم حتى عرف في وجهه ثم قال: «لو كان عمر موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها رضي الله تعالى عنه من يده وندم على ذلك. عمر أن
وأجيب بأن غضبه صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته [ ص: 85 ] صلى الله تعالى عليه وسلم ويزيد علما بصحة ما جاء به. ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [آل عمران: 93] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطين الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذه منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقية بعثته صلى الله تعالى عليه وسلم، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام.
وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمة يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أو شك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا وهو المعول عليه وهدى أي إلى الشرائع التي هي الطرق الموصلة إلى الله عز وجل ورحمة حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى: بمقتضى وعده سبحانه فعموم رحمته بهذا المعنى لا ينافي أن من الناس من هو كافر بها وهو غير مرحوم، وانتصاب المتعاطفات على الحالية من الكتاب على أنه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر إلخ، وجوز انتصابها على العلة أي آتيناه الكتاب لبصائر وهدى ورحمة أبو البقاء لعلهم يتذكرون أي كي يتذكروا بناء على أن لعل للتعليل؛ فقد أخرج من طريق ابن أبي حاتم عن السدي أبي مالك قال: لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء: 129] لعلكم تخلدون وحكى عن الواقدي أنه قال: جميع ما في القرآن من لعل للتعليل إلا (البغوي) لعلكم تخلدون فإنها فيه للتشبيه، والمشهور أنها للترجي. ولما كان محالا عليه عز وجل جعل بعضهم الكلام من باب التمثيل والمراد آتيناه ذلك ليكونوا على حالة قابلة للتذكر كحال من يرجى منه الخير، وبعض آخر صرف الترجي إلى المخاطبين فهو منهم لا منه تعالى، وجعل في ذلك استعارة تبعية حيث شبه الإرادة بالترجي لكون كل منهما طلب الوقوع، ورد بأن فيه لزوم تخلف مراد الله تعالى عن إرادته لعدم تذكر الكل إلا أن يكون من قبيل إسناد ما للبعض إلى الكل، وأنت تعلم أن الإرادة عند الزمخشري المعتزلة قسمان: تفويضية، وهي قد يتخلف المراد عنها، وقسرية وهي لا يتخلف المراد عنها أصلا، فمتى أريد القسم الأول منها هنا زال الإشكال إلا أن التقسيم المذكور خلاف المذهب الحق