والفعل مجزوم بلا الناهية، وأجاز فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضا وهو متعد لمفعولين، وجوز أن يكون متعديا لواحد فأولياء مفعول ثان أو حال، وهو جمع ولي بمعنى الموالي من الولي وهو القرب، والمراد لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما، وإنما قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار. الكسائي
وحمل على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا وعليه الجمهور أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما روي عن الموالاة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: عائشة لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فلن أستعين بمشرك " فمنسوخ " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق، أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر وكذا ما رواه عائشة، عن الضحاك في سبب النزول وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى. ابن عباس
ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره، وكذا أدخلوا في الموالاة المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس، وفي «فتاوى العلامة ابن حجر» جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان، كما لا يخفى.
من دون المؤمنين حال من الفاعل، أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره للإشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار، وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع وكونه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء، [ ص: 121 ] وقيل: الظرف في حيز الصفة لأولياء، وقيل: متعلق بفعل الاتخاذ، و (من) لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين.
ومن يفعل ذلك أي الاتخاذ، والتعبير عنه بالفعل، كما قال شيخ الإسلام للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره، و (من) شرطية، و يفعل فعل الشرط، وجوابه فليس من الله في شيء والكلام على حذف مضاف أي من ولايته، أو من دينه، والظرف الأول حال من (شيء) والثاني خبر ليس، وتنوين (شيء) للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع، ولهذا قيل:
تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب
وقيل أيضا:إذا والى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول: فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا، سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم.
وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد قطعا، ومما يدل على أنها رخصة ما روي عن [ ص: 122 ] الحسن: " أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، ثم دعا بالآخر فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال:، نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له، وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه ".
وأما القسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه، فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم: لا تجب، إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط، ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لإصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة.
وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطاءهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الديلمي " إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض "، وفي رواية: " بعثت بالمداراة "، وفي «الجامع»: وروى " سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم "، ابن أبي الدنيا: وفي رواية " رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس "، البيهقي: وأخرج " رأس العقل المداراة "، الطبراني: وفي رواية له: " مداراة الناس صدقة "، وأخرج " ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة "، ابن عدي وابن عساكر: " من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه "، وعن بردة عن رضي الله تعالى عنها قالت: عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه ". عائشة " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلما خرج، قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: يا
وفي عن «البخاري» " إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم "، وفي رواية أبي الدرداء: الكشميهني: " وإن قلوبنا لتقليهم "، وفي رواية ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحرمي بزيادة: " ونضحك إليهم "، إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس وهم الخوارج والشيعة، أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها، وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه [ ص: 123 ] في صلاته كي لا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين; وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت: «من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي»، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية، ومنهم من ذهب إلى جواز بل وجوب إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا أصيلا عندهم وأسسوا عليه دينهم وهو الشائع الآن فيما بينهم حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام; وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.
ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذي زعموه، ففي كتاب «نهج البلاغة» الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى في زعمهم: أن الأمير كرم الله تعالى وجهه، قال: علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى: علي إن أكرمكم عند الله أتقاكم بأكثركم تقية؟! وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال: إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج. وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين.
وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال: توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال: ويلك تصلي وأنت على غير وضوء، فقال: أمرني علي فأخذ بيده فانتهى إليه، ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر، رضي الله تعالى عنه، فقال عمر أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق. عمر:
وروى الراوندي شارح «نهج البلاغة» ومعتقد الشيعة عن أن سلمان الفارسي بلغه عن عليا أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين عمر المدينة وفي يد قوس فقال: يا علي بلغني عنك ذكرك لشيعتي، فقال: أربع على صلعتك، فقال عمر إنك ههنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه، وقد أقبل نحو علي ليبتلعه، فقال عمر الله الله يا عمر: أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء فجعل يتضرع، فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى إلى بيته، قال عمر فلما كان الليل دعاني علي فقال: سر إلى سلمان: فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا، تخبه فأفضحك قال سلمان: فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين [ ص: 124 ] علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا عمر اقبل عني ما أقول لك ما سلمان إلا ساحر، وإني لمستيقن بك والصواب أن تفارقه وتصير من جملتنا، قلت: ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا، قال: ارجع إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى علي فقال: أحدثك عما جرى بينكما، فقلت: أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا، ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت، وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته علي، من أم كلثوم خوفا منه وتقية. عمر
وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابا فقال جبريل: يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال: ومن النجباء يا جبريل؟ فقال: وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى علي ففك منه خاتما فعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل، ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى ابنه علي بن الحسين محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وافتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل، ثم دفعه إلى موسى وهكذا إلى جعفر الصادق المهدي.
ورواه من طريق آخر عن أيضا عن معاذ أبي عبد الله، وفي الخاتم الخامس: وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى، وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة.
وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومال الناس إلى رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت أبي بكر وأخذت بيد فاطمة الحسن ولم تدع أحدا من أهل والحسين بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة: الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد، وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه. أبا بكر
وفي «كتاب أبان بن عياش» أن رضي الله تعالى عنه بعث إلى أبا بكر قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي، وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق فبلغه، فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب علي وأضرم النار بباب عمر وأحرقه ودخل فاستقبلته علي وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع فاطمة السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فصاحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته، وفيه أيضا أن عمر قال عمر بايع لعلي: رضي الله تعالى عنه قال: إن لم أفعل ذلك؟ قال: إذا والله تعالى لأضربن عنقك، قال: كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألأم وأضعف من ذلك، فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية. أبا بكر
وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عند لعمر: أم معمر تحكم عليه جورا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك. [ ص: 125 ]
وروي أيضا أنه قال مرة: إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا تخرجان من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لعمر لإبراهيم ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليم نسفا، فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى، هذا العجب العجاب والداء العضال.
ومما يرد قولهم أيضا أن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان: الأول: الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما: أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في «الكافي»، وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الإمامية، وثانيهما: أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين، القسم الثاني: خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائما في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة، وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله عليه وسلم.
وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة.
ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا وقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إلى غير ذلك من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عن عبد بن حميد أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة، والثاني: حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذي ذكرناه. الحسن
ومن الناس من أوجب نوعا من التقية خاصا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمى الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض:
وحنانيك بعض الشر أهون من بعض
وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم، وقد يقال: ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا، ويؤيد هذا ما ذكره الشعراني قدس سره في «الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم المشهورة» مما نصه، وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق علي فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا [ ص: 126 ] الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك، انتهى.فعلى هذا، الإنكار على القوم ليس في محله.
ويحذركم الله نفسه أي عقاب نفسه، قاله رضي الله تعالى عنه وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح حيث علق التحذير بنفسه. ابن عباس
وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح، وقيل: النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة.
وإلى الله المصير [ 28 ] أي المرجع، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة، قيل: والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما.