ويحتمل أن يكون من فوق ومن أسفل كناية عن الإحاطة من جميع الجوانب كأنه قيل: إذ جاؤوكم محيطين [ ص: 157 ] بكم، كقوله تعالى: يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم [العنكبوت: 55]، وإذ زاغت الأبصار عطف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير أي حين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة.
وقال أي حين مالت عن كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها، الفراء: وبلغت القلوب الحناجر أي خافت خوفا شديدا، وفزعت فزعا عظيما، لأنها تحركت عن موضعها، وتوجهت إلى الحناجر لتخرج.
أخرج ، عن ابن أبي شيبة أنه قال في الآية: إن القلوب لو تحركت وزالت خرجت نفسه، ولكن إنما هو الفزع فالكلام على المبالغة، وقيل: القلب عند الغضب يندفع، وعند الخوف يجتمع، فيتقلص بالحنجرة، وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس، فلا يقدر المرء أن يتنفس، ويموت خوفا، وقيل: إن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغضب والغم الشديد، وإذا انتفخت ربت، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثم قيل للجبان: انتفخ سحره، وإلى حمل الكلام على الحقيقة ذهب عكرمة . قتادة
أخرج عنه ، عبد الرزاق ، وابن المنذر أنه قال في الآية: أي شخصت عن مكانها، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت. وابن أبي حاتم
وفي مسند الإمام عن أحمد، قال: أبي سعيد الخدري قلنا يا رسول الله، هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: (نعم، اللهم استر عورتنا، وآمن روعاتنا)، قال: فضرب الله تعالى وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم الله تعالى بالريح.
والخطاب في قوله تعالى: وتظنون بالله الظنونا لمن يظهر الإيمان على الإطلاق، والظنون جمع الظن، وهو مصدر شامل للقليل والكثير، وإنما جمع للدلالة على تعدد أنواعه، وقد جاء كذلك في أشعارهم، أنشد في كتاب الألحان: أبو عمرو
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
أي تظنون بالله تعالى أنواع الظنون المختلفة، فيظن المخلصون منكم الثابتون في ساحة الإيمان أن ينجز سبحانه وعده في إعلاء دينه، ونصرة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، ويعرب عن ذلك ما سيحكى عنهم من قولهم: هذا ما وعدنا الله ورسوله الآية، أو أن يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم، فلا يتحملون ما نزل بهم، وهذا لا ينافي الإخلاص والثبات كما لا يخفى، ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما حكي عنهم في قوله تعالى: وإذ يقول المنافقون الآية، وأخرج ، ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم أنه قال في الآية: ظنون مختلفة ظن المنافقون أن الحسن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله، وقد يختار أن الخطاب للمؤمنين ظاهرا وباطنا واختلاف ظنونهم بسبب أنهم يظنون تارة أن الله سبحانه سينصرهم على الكفار من غير أن يكون لهم استيلاء عليهم أولا، وتارة أنه عز وجل سينصر الكفار عليهم، فيستولون على المدينة، ثم ينصرهم عليهم بعد، وأخرى أنه سبحانه سينصر الكفار بحيث يستأصلونهم وتعود الجاهلية، أو بسبب أن بعضهم يظن هذا وبعضهم يظن ذاك وبعضهم يظن ذلك. ويلتزم أن الظن الذي لا يليق بحال المؤمن كان من خواطر النفس التي أوجبها الخوف الطبيعي، ولم يمكن البشر دفعها، ومثلها عفو، أو يقال: ظنونهم المختلفة هي ظن النصر بدون نيل العدو منهم شيئا، وظنه بعد النيل، وظن الامتحان، وعلى هذا لا يحتاج إلى الاعتذار، وأيا ما كان فالجملة معطوفة على ( زاغت ) وصيغة المضارع لاستحضار الصورة، والدلالة على الاستمرار، وكتب الظنونا وكذا أمثاله من المنصوب المعرف [ ص: 158 ] بأل، كالسبيلا والرسولا في المصحف بألف في آخره، فحذفها وقفا ووصلا، أبو عمرو ، وابن كثير والكسائي، وحفص يحذفونها وصلا خاصة، ويثبتها باقي السبعة في الحالين، واختار والحذاق أن يوقف على نحو هذه الكلمة بالألف، ولا توصل فتحذف أو تثبت، لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار، ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب نظمهم ونثرهم لا في اضطرار، ولا في غيره، أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقة لبعض مذاهب العرب، لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم ومصاريعها، ومن ذلك قوله: أبو عبيد،
أقلى اللوم عاذل والعتابا
والفواصل في الكلام كالمصاريع، وقال إن رؤوس الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع. أبو علي: