قال الخفاجي: إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعينا، وإلا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، ( وأشحة ) جميع شحيح على غير القياس، إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولامه أن يجمع على أفعلاء كضنين وأضناء وخليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضا، ونصبه عند الزجاج وأبي البقاء على الحال من فاعل ( يأتون ) على معنى تركوا الإتيان أشحة، وقال على الذم، وقيل: على الحال من ضمير الفراء: هلم إلينا أو من ضمير يعوقون مضمرا، ونقل أولهما عن وهو كما ترى، وقيل: من الطبري، المعوقين )، أو من [ ص: 165 ] القائلين، وردا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة، وإنما يظهر الرد على كونه حالا من ( المعوقين )، لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته.
وقرأ «أشحة» بالرفع على إضمار مبتدإ أي هم أشحة، ابن أبي عبلة فإذا جاء الخوف من العدو، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية، فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم، والجملة في موضع الحال، أي دائرة أعينهم من شدة الخوف.
كالذي يغشى عليه من الموت صفة لمصدر ( ينظرون )، أو حال من فاعله، أو لمصدر تدور )، أو حال من أعينهم )، أي ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك أو ينظرون كائنين، كالذي إلخ، أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عين الذي إلخ، أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي إلخ، وقيل: معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال، وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم، وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر، لا على نية خير، والقول الأول هو الظاهر، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أي آذوكم بالكلام، وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله وعن الفراء، : بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا أعطونا، فلستم بأحق بها منا، وقال قتادة يزيد بن رومان:
بسطوا ألسنتهم في أذاكم، وسبكم، وتنقيص ما أنتم عليه من الدين. وقال بعض الأجلة: أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدا أو لسانا، فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم، وفسر السلق هنا بالضرب مجازا كما قيل للذم طعن، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق بمعنى الضرب تخييلا، وسأل نافع بن الأزرق رضي الله تعالى عنه عن ابن عباس فقال: الطعن باللسان، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم، أما سمعت قول السلق في الآية الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب المسلاق
وفسره بالمخاطبة الشديدة قال: معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة، يقال: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغا في خطبته، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت، وعلى ذلك جاء قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: الزجاج «ليس منا من سلق أو حلق»
قال في النهاية: أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل: أن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح، وزعم بعضهم أن المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة، ولا يخفى ما فيه، وقرأ «صلقوكم» بالصاد. ابن أبي عبلة
أشحة على الخير أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روي عن ، وقيل: على مالهم الذي ينفقونه، وقال قتادة أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير، وذهب الجبائي: إلى عموم الخير. ونصب أبو حيان أشحة على الحال من فاعل سلقوكم أو على الذم، ويؤيده قراءة «أشحة» بالرفع، لأنه عليه خبر مبتدإ محذوف، أي هم أشحة، والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم، وغاير بعضهم بين الشح هنا، والشح فيما مر بأن ما هنا مقيد بالخبر المراد به مال الغنيمة وما مر مقيد بمعاونة المؤمنين ونصرتهم، أو بالإنفاق [ ص: 166 ] في سبيل الله تعالى، فلا يتكرر هذا مع ما سبق، ابن أبي عبلة لما ذهب إلى ما ذهب هناك، قال هنا: فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير، وهو المال والغنيمة، ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتكم إلخ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك. والزمخشري
ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا، وما سبق: إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين، ومن هذا ذمهم بالحرص على المال، أو ما فيه منفعة مطلقا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين، أو غيرهم، وهو أبلغ في ذمهم من الأول، أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لم يؤمنوا بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا في قلوبهم الكفر فأحبط الله أعمالهم أي أظهر بطلانها، لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروطة بالإيمان بالإخلاص، وهم مبطنون الكفر، وفي البحر: أي لم يقبلها سبحانه، فكانت كالمحبطة، وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها، وجوز أن يكون المراد بها ما عملوه نفاقا وتصنعا، وإن لم يكن عبادة، والمعنى فأبطل عز وجل صنعهم ونفاقهم، فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا.
وحمل بعضهم الأعمال على العبادات، والإحباط على ظاهره بناء على ما روي عن عن أبيه قال: نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد ابن زيد، بدر، ووقع منه ما وقع، فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها، وصيغة الجمع تبعد ذلك، وكذا قوله تعالى: لم يؤمنوا فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «لعل الله اطلع على أهل
يأبى ذلك، فالظاهر، والله تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة. وكان ذلك أي الإحباط على الله يسيرا أي هينا لا يبالي به، ولا يخاف سبحانه اعتراضا عليه، وقيل: أي هينا سهلا عليه عز وجل، وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالإحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له، وعدم مانع عنه بالكلية، وقيل: ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه، والمعنى كان ذلك الحال عليه عز وجل هينا لا يبالي به، ولا يجعله سبحانه سببا لخذلان المؤمنين، وليس بذاك، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف.