وأورد على الأول أن الإرهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كإظلال الغمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم الحجر معه، وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه، ويمكن أن يدفع بالعناية; وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع زكريا عليه السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له.
واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها، ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا فقد روي أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخيه فيه، ولم يقل أحد بنبوته، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب.
ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا ولا يخفى ما فيه، أما أولا: فلأن حكاية الإجماع في غاية الغرابة فإن الخلاف في نبوة نسوة كحواء وآسية وأم موسى وسارة وهاجر ومريم موجود خصوصا مريم فإن القول بنبوتها شهير، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في «الحلبيات»، وابن السيد إلى ترجيحه، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك.
وأما ثانيا: فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فافهم.
وطهرك أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء [ ص: 155 ] مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد، قاله وروي عن الزجاج الحسن أن المراد طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية، وقيل: نزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية. وابن جبير
واصطفاك على نساء العالمين [ 42 ] يحتمل أن يراد بهذا الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة عيسى عليه السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وجعلها وإياه آية للعالمين، ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن، وعلى الأول يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه السلام للتنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكر وله نظائر قد مر بعضها، وعلى الثاني لا إشكال في الترتيب وتكون حكمة تقدم هذه المقاولة على البشارة الإشارة إلى كونها عليها السلام قبل ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل والانقياد حسب الأمر، ولعل الأول أولى، كما قال الإمام لما أن التأسيس خير من التأكيد.
والمراد من نساء العالمين قيل: جميع النساء في سائر الأعصار، واستدل به على على أفضليتها وخديجة فاطمة رضي الله تعالى عنهن، وأيد ذلك بما أخرجه وعائشة في أحد الطرق عن ابن عساكر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس مريم بنت عمران، ثم ثم فاطمة، ثم خديجة، آسية امرأة فرعون "، وبما أخرجه " سيدة نساء أهل الجنة عن ابن أبي شيبة مكحول، وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا " ، وبما أخرجه " خير نساء ركبن الإبل نساء عن ابن جرير صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم أنها قالت: فاطمة " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول ".
وقيل: المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على رضي الله تعالى عنها، ويؤيده ما أخرجه فاطمة من طريق ابن عساكر عن مقاتل عن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن عباس " أربع نسوة سادات عالمهن، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، صلى الله عليه وسلم وأفضلهن عالما وفاطمة بنت محمد "، فاطمة وما رواه الحرث بن أسامة في «مسنده» بسند صحيح، لكنه مرسل "مريم خير نساء عالمها" وإلى هذا ذهب رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت. أبو جعفر
والذي أميل إليه أن البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات وبه يجمع بين الآثار وهذا سائغ على القول بنبوة فاطمة مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء .
وأين الثريا من يد المتناول
ومن هنا يعلم أفضليتها على رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: عائشة " خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء "، وقوله عليه الصلاة والسلام: على النساء كفضل الثريد على الطعام عائشة "، فضل وبأن " يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة يومئذ فيها مع زوجها وفاطمة كرم الله تعالى وجهه، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي كرم الله تعالى وجهه. عليوأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء؛ أما أولا: فلأن [ ص: 156 ] قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلى الله عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك، ولو علم لربما قال: خذوا كل دينكم عن الزهراء، وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة والسلام: يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة، كما لا يخفى كيف لا "إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض "، رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة؟!. وفاطمة
وأما ثانيا: فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها، فقد أخرج عن ابن جرير عمار بن سعد أنه قال: على نساء أمتي خديجة كما فضلت فضلت مريم على نساء العالمين "، بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهرا في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد: إن أل في النساء فيه للعهد; والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الإخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
وأما ثالثا: فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به.
وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء ثم أمها ثم فاطمة بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عائشة، لا أرى عليه بأسا; وعندي بين عائشة مريم توقف نظرا للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه، وقد سئل الإمام وفاطمة السبكي عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن صلى الله عليه وسلم أفضل ثم أمها ثم فاطمة بنت محمد ووافقه في ذلك عائشة، البلقيني وقد صحح ابن العماد أن أيضا أفضل من خديجة لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال عائشة حين قالت: لعائشة وأيد هذا بأن "قد رزقك الله تعالى خيرا منها، فقال لها: لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس "، أقرأها السلام النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة جبريل، أقرأها السلام وخديجة جبريل من ربها، وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها وإلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الأستروشني منا، وذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم.
وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويله، وتأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.