إذ جاءتهم الرسل أي جاءت عادا وثمود ففيه إطلاق الجمع على الاثنين وهو شائع وكذا ( الرسل ) [ ص: 110 ] وقيل : يحتمل أن يراد ما يعم رسول الرسول ، وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين ، وذكروا في ( إذ ) أوجها من الإعراب . الأول أنه ظرف لأنذرتكم . الثاني أنه صفة لصاعقة الأولى ، وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة والسلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عادا وثمود وليس كذلك . الثالث أنه صفة لصاعقة الثانية ، وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة . الرابع واختاره أنه معمول لصاعقة أبو حيان عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى . الخامس واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة ، وبعضهم يجوز كونه حالا من الأولى أيضا لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة ، وقوله تعالى : من بين أيديهم ومن خلفهم متعلق بجاءتهم ، والضمير المضاف إليه لعاد وثمود ، والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جميع جهاتهم ، والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بما بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاءوهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة .
وروي هذا عن ، وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن الحسن هودا وصالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى : ( ألا تعبدوا إلا الله ) وروي هذا الوجه عن ابن عباس ، وإليه ذهب والضحاك . ونص بعض الأجلة على أن ( من بين أيديهم ) عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم ، وجمع الرسل عليه ظاهر ، وقيل : يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى : الفراء يأتيها رزقها رغدا من كل مكان [النحل : 112] وقال : الضمير في قوله تعالى : الطبري من بين أيديهم لعاد وثمود وفي قوله تعالى : ومن خلفهم للرسل وتعقبه في البحر بأن فيه خروجا عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم ، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير عائدا في ( من خلفهم ) على الرسل لفظا وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر ، وبعده لا يخفى .
وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر ، و ( أن ) يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و ( لا ) ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضا ، والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه ، وجعل ( لا ) نافية و ( أن ) ناصبة للفعل ، وقيل : إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف ، وأورد عليه أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وأن خبر باب أن لا يكون طلبا إلا بتأويل ، وقد يدفع بأنه بتقدير القول وأن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضي وغيره ، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه وعلى احتمال كونها مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف [ ص: 111 ] الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله الحوفي قالوا لو شاء ربنا مفعول المشيئة محذوف وقدره إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل الزمخشري لأنزل ملائكة أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل : لأنزل ، قيل : ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير مطرد ، وقال : إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم ، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤوه في البشر وهو وجه حسن . أبو حيان
فإنا بما أرسلتم به أي بالذي أرسلتم به على زعمكم ، وفيه ضرب تهكم بهم كافرون لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ، والفاء فاء النتيجة السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل ، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم ، و ( ما ) كما أشرنا إليه موصولة ، وكونها مصدرية وضمير ( به ) لقولهم : أن لا تعبدوا إلا الله خلاف الظاهر ، أخرج في الدلائل . البيهقي عن وابن عساكر قال : جابر بن عبد الله قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى ( علي ) إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب ؟ فلم يجبه قال : فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك ، وإن كان المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام : «بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا - فقرأ حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود » فأمسك عتبة على فيه عليه الصلاة والسلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل : يا معشر قريش ما أرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد صلى الله عليه وسلم فغضب وأقسم بالله تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة والسلام أبدا وقال : لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب »