وأما ثمود فهديناهم قال ابن عباس وقتادة : أي بينا لهم ، وأرادوا بذلك على ما قيل بيان طريقي الضلالة والرشد كما في قوله تعالى : والسدي وهديناه النجدين [البلد : 10] وهو أنسب بقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى أي فاختاروا الضلالة على الهدى فالظاهر في أنه بين لهم الطريقان فاختاروا أحدهما ، وصرح ابن زيد بذلك فقد حكي عنه أنه قال : أي أعلمناهم الهدى من الضلال ، وفسر غير واحد الهداية هنا بالدلالة أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل فاختاروا الضلال ولم يفسروها بالدلالة الموصلة لإباء ظاهر فاستحبوا .. إلخ عنه .
واستدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على أن قوله تعالى : ( هديناهم ) دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة ، وقوله تعالى : فاستحبوا العمى .. إلخ دل على أنهم بأنفسهم آثروا العمى . والجواب كما في الكشف أن في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة وأن لقدرة العبد مدخلا ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق وإيثار العمى حبا وهو الاستحباب من الاختيارية ، فانظر إلى هذه الدقيقة تر العجب العجاب ، وإلى نحوه أشار الإمام الداعي إلى الله تعالى قدس سره ، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية إنها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه ، فهي نفسها غير اختيارية لكنها باعتبار مقدماتها اختيارية ، ولذلك كلفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي طوق الحمامة لابن سعيد أن المحبة ميل روحاني طبيعي ، وإليه يشير قوله عز وجل : وجعل منها زوجها ليسكن إليها [الأعراف : 189] أي يميل فجعل علة ميلها كونها منها ، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام : وتكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال ، ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والتعظيم ، وهذه هي التي يكلف بها لأنها اختيارية فاعرفه . وقرأ «الأرواح جنود مجندة » ابن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب «وأما ثمود » بالرفع مصروفا .
وقد قرأ الأعمش بصرفه في جميع القرآن إلا في قوله تعالى : ( وآتينا ثمود الناقة ) [الإسراء : 59] لأنه في المصحف بغير ألف . وقرأ وابن وثاب ابن أبي إسحاق بخلاف عنه وابن هرمز والمفضل ، قال : ابن عطية [ ص: 114 ] والأعمش وروي عن وعاصم «ثمودا » بالنصب والتنوين ، وروى ابن عباس المفضل عن الوجهين والمنع عن الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة القبيلة ، ومن صرفه جعله اسم رجل ، والنصب على جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير ، ويقدر الفعل الناصب بعده لأن أما لا يليها في الغالب إلا اسم . وقرئ بضم الثاء على أنه جمع ثمد وهو قلة الماء فكأنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في الرمال بين حضرموت وصنعاء وكانوا قليلي الماء عاصم فأخذتهم صاعقة العذاب الهون أي الذل وهو صفة للعذاب أو بدل منه ، ووصفه به مصدرا للمبالغة وكذا إضافة صاعقة إلى العذاب فيفيد ذلك أن عذابهم عين الهون وأن له صاعقة ، والمراد بالصاعقة النار الخارجة من السحاب كما هو المعروف ، وسبب حدوثها العادي مشهور في كتب الفلسفة القديمة وقد تكلم في ذلك أهل الفلسفة الجديدة المتداولة اليوم في بلاد الروم وما قرب منها فقالوا في كيفية انفجار الصاعقة : من المعلوم أن انطلاق الكهربائية التي في السحاب وهي قوة مخصوصة في الأجسام نحو قوة الكهرباء التي بها تجذب التبنة ونحوها إليها إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتتبجس بينهما شرارة كهربائية فتصعق الأجسام الأرضية ، وتتفاوت قوة الصاعقة باختلاف الاستحالة البخارية فليست في جميع البلاد والفصول واحدة ، وأوضحوا ذلك بكلام طويل من أراده فليرجع إليه في كتبهم ، وقيل : المراد بالصاعقة هنا الصيحة كما وردت في آيات أخر ، ولا مانع من الجمع بينهما .
وقرأ «الهوان » بفتح الهاء وألف بعد الواو ابن مقسم بما كانوا يكسبون من اختيار الضلالة على الهدى ، وهذا تصريح بما تشعر به الفاء