ما كان إبراهيم الخليل يهوديا متعلقا بالتشبيه ولا نصرانيا قائلا بالتثليث ولكن كان حنيفا مائلا عن الكون برؤية المكون مسلما منقادا عند جريان قضائه وقدره، أو ذاهبا إلى ما ذهب إليه المسلمون المصطفون القائلون ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين، فإن الخليل لما بلغ حضرة القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت، فقال إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض . [ ص: 221 ]
وهذا النبي العظيم يعني محمدا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسلم أولى أيضا بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لأنه زبدة مخيض محبته وخلاصة حقيقة فطرته، والذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم وأشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم أسراره، والله ولي المؤمنين كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قباب العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم جعله أهل الله سبحانه خطابا للمؤمنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقروا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم، قل إن الهدى أعني هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من علم الباطن، (أو) مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر.
وحاصل المعنى (إن الهدى) الجمع بين الظاهر والباطن، وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى، قل إن الفضل بيد الله فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم في أزل الآزال، والله واسع عليم فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لأهل الشهود، يختص برحمته الخاصة من يشاء من عباده وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت، والله ذو الفضل العظيم الذي لا يكتنه، بلى من أوفى بعهده وهو عهد الروح بنعت الكشف وعهد القلب بتلقي الخطاب وعهد العقل بامتثال الأوامر والنواهي، واتقى من خطرات النفوس وطوارق الشهوات، فإن الله يحب المتقين أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة، إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية إشارة إلى من مال إلى خضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى، وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرياسة، فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة، ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقيا قابلا للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوبا بها، وبين الأمرين تناقض، ولكن يقول: كونوا ربانيين أي منسوبين إلى الرب، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب.
ولهم في الرباني عبارات كثيرة، فقال الشبلي: الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه، وقال سهل: الرباني الذي لا يختار على ربه حالا، وقال القاسم: هو المتخلق بأخلاق الرب علما وحكما، وقيل: هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده، وقيل: هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها، وقيل وقيل ، وكل الأقوال ترد من منهل واحد.
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد وإذ أخذ الله ميثاق النبيين الآية، فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة، وقيل: إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم الخ . [ ص: 222 ]
فمن تولى بعد ذلك أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد إليهم فأولئك هم الفاسقون أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتدا به في الحقيقة إلا توهما، أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض أي من في عالم الأرواح وعالم النفوس، أو من في عالم الملكوت وعالم الملك طوعا باختياره وشعوره وكرها من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بسبب احتجابه برؤية الأغيار، ولهذا سقط عن درجة القبول وإليه يرجعون في العاقبة حين يكشف عن ساق، ومن يبتغ غير الإسلام وهو التوحيد دينا له فلن يقبل منه لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب وهو في الآخرة ويوم القيامة الكبرى من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم، كيف يهدي الله قوما الآية، استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب، والله غالب على أمره، ولله در من قال:
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت ظنون مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر
وموسى الذي رباه فرعون مرسل