وفي رواية أخرى : " . لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان "
وأيد الأول بما أخرجه في الدلائل عن البيهقي قال : كان الله تعالى وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا ؛ رفع الله تعالى مدد الملائكة . واختار مولانا عروة شيخ الإسلام الثاني ، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا .
والقول بأن المراد ما وعده جل شأنه بقوله سبحانه : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليس بشيء كما لا يخفى .
وأخرج الإمام وجماعة عن أحمد رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما نصر الله تعالى نبيه في موطن كما نصره يوم ابن عباس أحد ، فأنكروا ذلك ، فقال : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تعالى ، إن الله تعالى يقول يوم ابن عباس أحد : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم أي تقتلونهم وهو التفسير المأثور ، واستشهد عليه الحبر بقول عتبة الليثي :
(نحسهم) بالبيض حتى كأننا نفلق منهم بالجماجم حنظلا
وبقوله :
ومنا الذي لاقى بسيف محمد (فحس) به الأعداء عرض العساكر
وأصل معنى حسه أصاب حاسته بآفة فأبطلها مثل كبده ، ولذا عبر به عن القتل ، ومنه جراد محسوس وهو الذي قتله البرد ، وقيل : هو الذي مسته النار ، وكثيرا ما يستعمل الحس بالقتل على سبيل الاستئصال ، والظرف متعلق بـ صدقكم وجوز أن يكون ظرفا للوعد أبو البقاء بإذنه أي بتيسيره وتوفيقه ، والتقييد به لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر حتى إذا فشلتم أي فزعتم وجبنتم عن عدوكم وتنازعتم في الأمر أي أمر الحرب أو أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لكم في سد ذلك الثغر على ما تقدم تفسيره وعصيتم إذ لم تثبتوا هناك وملتم إلى الغنيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من انهزام المشركين وغلبتكم عليهم .
قال : نصر الله تعالى المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وزلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي أن مجاهد أقبل بخيل المشركين ومعه خالد بن الوليد عكرمة بن أبي جهل ، فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رضي الله تعالى عنه أن احمل عليه ، فحمل عليه فهزمه ومن معه ، فلما رأى الرماة ذلك انكفأوا إلا قليلا ودخلوا العسكر وخالفوا الأمر وأخلوا الخلة التي كانوا فيها ، فدخلت خيول المشركين من ذلك الموضع على الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فضرب بعضهم بعضا والتبسوا ، وقتل من المسلمين أناس كثير بسبب ذلك . الزبير
منكم من يريد الدنيا وهم الرماة الذين طمعوا في النهب وفارقوا المركز له ومنكم من يريد الآخرة كعبد الله بن جبير أمير الرماة ومن ثبت معه ممتثلا أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى [ ص: 90 ] استشهد ثم صرفكم عنهم أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها ليبتليكم أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ليبين أمركم وثباتكم على الإيمان ، ففي الكلام استعارة تمثيلية ، وإلا فالامتحان محال على الله تعالى ، وفي (حتى) هنا قولان : أحدهما أنها حرف جر بمنزلة إلى ومتعلقها تحسونهم أو صدقكم أو محذوف تقديره دام لكم ذلك ، وثانيهما أنها حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية من إذا وما بعدها ، وجواب (إذا) قيل : تنازعتم والواو زائدة واختاره ، وقيل : الفراء صرفكم ، و (ثم) زائدة وهو ضعيف جدا ، والصحيح أنه محذوف وعليه البصريون ، وقدره : بأن أمركم ، أبو البقاء وأبو حيان : انقسمتم إلى قسمين بدليل ما بعده ، : منعكم نصره ، والزمخشري : انهزمتم ، ولكل وجهة ، وبعض المتأخرين : امتحنكم ، ورد بجعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر ، وعلى كل تقدير يكون وابن عطية صرفكم معطوفا على ذلك المحذوف ، وقيل : إن (إذا) اسم كما في قولهم : إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو ، و (حتى) حرف جر بمعنى إلى متعلقة بـ (صدقكم) باعتبار تضمنه معنى النصر كأنه قيل : لقد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم وتنازعكم إلخ ، و ثم صرفكم حينئذ عطف على ذلك ، وهاتان الجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين .
ولقد عفا عنكم بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة ، قيل : والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر المنصرفين .
ويؤيد ذلك ما أخرجه عن البخاري عثمان بن موهب قال : جاء رجل إلى رضي الله تعالى عنهما فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا ابن عمر البيت أتعلم أن فر يوم عثمان بن عفان أحد ؟ قال : نعم . قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم . قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم . فكبر . فقال : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه ، أما فراره يوم ابن عمر أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه ، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكانت مريضة ، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه .
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من لبعثه مكانه ، فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى عثمان مكة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده فقال : هذه يد اذهب بها الآن معك ، وقال عثمان البلخي : إنه عفو عن الاستئصال ، وروي ذلك عن وزعم ابن جريج ، أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بانصرافه ، والكل خلاف الظاهر ، وقد يقال : الداعي لقول أبو علي الجبائي البلخي : إن العفو عن الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه ، والتأسيس خير من التأكيد ، وكلام رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن الله تعالى عفا عن ذنب الفارين وهو صريح الآية الآتية ، وأما أنه يفهم منه ولو بالإشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب فلا أظن منصفا يدعيه . ابن عمر
والله ذو فضل على المؤمنين (152) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم ، إذ الابتلاء أيضا رحمة ، والتنوين للتفخيم ، والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون ، والإظهار في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم ، وإما الجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا ، ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من التخصيص ، وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الاستئصال كما زعمه البعض .