وقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين ، والمراد بهؤلاء قيل : الذين هاجروا حين قوي الإسلام ، فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة ، وضمير من بعدهم للمهاجرين الأولين ، وقيل : هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان ، وضمير من بعدهم للفريقين المهاجرين والأنصار ، وهذا هو الذي يدل عليه كلام رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه ، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين ، وجملة قوله تعالى : عمر يقولون إلخ حالية ، وقيل : استئناف ربنا اغفر لنا ولإخواننا أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الذين سبقونا بالإيمان وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم ولا تجعل في قلوبنا غلا أي حقدا ، وقرئ غمرا للذين آمنوا على الإطلاق ربنا إنك رءوف رحيم أي مبالغ في الرأفة والرحمة . فحقيق بأن تجيب دعاءنا ، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم ، وأخرج عبد بن حميد وجماعة عن وابن المنذر رضي الله تعالى عنها قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية عائشة والذين جاءوا إلخ .
وأخرج عن ابن مردويه رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض ابن عمر المهاجرين فدعاه [ ص: 55 ]
فقرأ عليه للفقراء المهاجرين الآية ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت ؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية ، ثم قال : هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت ؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه والذين جاءوا من بعدهم الآية ، ثم قال : أفمن هؤلاء أنت ؟ قال : أرجو قال : لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء .
وفي رواية أن رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نال من ابن عمر رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال ، وقال الإمام عثمان : من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قول سيئ أو بغض فلا حظ له في الفيء أخذا من هذه الآية ، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين ، وفي حديث أخرجه مالك الحكيم الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه والنسائي الأنصار فبات معه ثلاث ليال مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص عبد الله : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق - وفي رواية - أنه قال : لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من عبد الله : لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلا بينا » هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : والذين تبوءوا إلخ مبتدأ ، وجملة يحبون إلخ خبره ، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار ، وجوز كون ذلك معطوفا على " أولئك " فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق ، وجملة يحبون إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير تبوءوا وإلى أن قوله تعالى : والذين جاءوا إلخ مبتدأ ، وجملة يقولون إلخ خبره ، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار .
واستدل لعدم عطف " الذين تبوءوا " على المهاجرين بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم ، وقال عليه الصلاة والسلام لهم : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا : بل نقسم لهم- أي للمهاجرين - من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها » فنزلت الآية والذين تبوءوا الدار والإيمان إلى آخره ، وبعض القائلين بالعطف يقولون : إن قوله تعالى : والذين تبوءوا إلخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف ، ولكن قد اختار صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم ، وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم ، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم ، وأنهم يعطون من الفيء ، وكذا عطف -الذين جاؤوا من بعدهم - فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن رضي الله تعالى عنه قال - أي في قضاء بين عمر كرم الله تعالى وجهه وعمه علي رضي الله تعالى عنه في العباس فدك ، وقد كان دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن [ ص: 56 ] عمر
يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا - إن الله تعالى قال : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير فكانت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة ، ثم قال سبحانه : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى إلى آخر الآية ، ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ، ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا إلى قوله تعالى : رحيم فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر ، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه ، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون للفقراء بدلا من - لذي القربى - وما بعده ولا مما بعده دونه ، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله وزيد بن ثابت كما أخرجه في المصاحف عن ابن الأنباري - ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله - على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات ، وفي صدق ذلك عليهم بعد ، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك ، وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني ، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى : الأعمش فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا : فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي ؟ فقيل : تكون الأخماس الأربعة الباقية أو يكون الباقي للفقراء المهاجرين إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل ، والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك .